الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد المرابط: من يملك الملك، بين سؤال التاريخ وسؤال الحاضر؟

محمد المرابط: من يملك الملك، بين سؤال التاريخ وسؤال الحاضر؟

عبرنا في مقالنا السابق: "أتستوعب إمارة المؤمنين الصف الوطني الديمقراطي؟"، عن نزوع الوصاية لدى الأصولية على المشرب الحداثي للملك، من منطلق رهان -من داخل الحقل الديني- يرى أن من يحسم الصراع هو من يملك الملك. وألمحنا إلى أن ادعاء الأستاذ التوفيق، على وقع آيات الحاكمية، باستنفاد الاجتهاد في التشريع سنة 2014، وتجريمه الديني لأصحاب سؤال الحداثة سنة 2012، في سياق التعريض بالمشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لصاحب الأمر  .

وتقتضي بيداغوجية الحديث في هذا المستوى فرشا نظريا ينهل من تاريخنا الوطني قبل استنطاق أبعاد هذا الرهان في تحالف الأصولية والاقتصاد المتوحش، لإرساء نموذج "تنموي" استغلالي ومتخلف وبالاستبداد السياسي اللازم لذلك، قد يختلف في الشكل عن العهد السابق، لكنه بهذا الانزلاق المدروس لن يختلف عن جوهره.

من نافلة القول، أن التركيبة البشرية للمغرب إلى جانب المكون اليهودي، تتكون في جانب الإسلام من الأمازيغ في الصحراء والجبال، ومن العرب في السهول والصحراء، ومن الأشراف في كل التضاريس المغربية. وبصرف النظر عن النحت التاريخي الذي طال صياغة هذه التركيبة، لكن التمييز بين العرب والأشراف ضروري من الناحية الإجرائية لقراءة ما انغلق من بعض الوقائع، بالنظر إلى مكانة الأشراف لدى الأمازيغ. فـ "إمرابضن"، مثلا في الريف، وهم شرفاء أدارسة، يمثلون خمس قبيلة بني ورياغل. وهذا المعطي السوسيو ثقافي هو ما حمل المجاهد مولاي موحند (ابن عبد الكريم الخطابي) على أن تكون الإقامة الجبرية لزعيم جبالة مولاي أحمد الريسوني -وقد تم نقله من تازروت- في تماسينت قاعدة سادات بني ورياغل.. إذ أن غالبية هؤلاء السادات هم من بني  محمد بن القطب مولاي عبد السلام بن مشيش، في حين أن الشرفاء الريسونيين هم من بني يونس عم القطب ابن مشيش.. والكل يجتمع في أبي بكر الجد الجامع للشرفاء العلميين. فمولاي موحند استحضر حقائق التاريخ لمعالجة بعض الضرورات السياسية، والتي أتمنى أن يستحضرها مناضلو الحركة الأمازيغية، لمعالجة ضرورات الراهن المغربي. وللإشارة فقد عملت منذ سنوات، رفقة الأخ الدكتور فكري سوسان، على الوقوف على قبر الشريف الريسوني بتماسينت.. وهو الوقوف الذي مهد لبنائه بعد ذلك، في سياق المصالحة الأفقية في الشمال بين جبالة والريف. وللإشارة أيضا فإن بعض سادات بني ورياغل الغلبزوريين، يحملون اسم الريسولي تيمنا وتبركا بدراستهم في رباط تازروت على يد الشرفاء الريسونيين.

وسنقف على حالتين للتقاطب الإثني والمذهبي في تحديد وظيفة السلطان نراها مفيدة لمواصلة الحديث الحاضر بضمان قدر من الإصغاء لنبض التاريخ لضبط بوصلة المستقبل في الاتجاه المطابق لتراكم هذا النبض الدافق، وليس لضمان التأمين السياسي لرحلة هذه الشعاب الوعرة، فنحن على وعي بكلفة التصدي لانزلاقات الانتقالات الكبرى في حياة الأمم والشعوب.

1- إن كتابة التاريخ قد تتحكم فيها بعض الخلفيات الإثنية؛ فصاحب كتاب "زهر البستان" وهو عربي، نجده يقرأ سياق ظهور محمد الأول -في حياة والده مولانا الشريف- في "تغلب البربر على العرب(..) وأوقعوا بهم وقعات(..) حتى فني الكثير من قبائل العرب، ودخل الكثير من المستضعفين والنساء والولدان لبلاد النصارى ..". إنها لوحة قاتمة، تجعل من ظهور محمد الأول لحظة خلاص من واقع "تضعضع ركن الخلافة بالمغرب"، لتغلب البربر على العرب. لكن صاحب "زهر الأكم" وهو ريفي لم يكن سجين رؤية سلفه. وسواء هنا أوهناك فقد فرضت الوقائع التاريخية نفسها، فالممارسة السياسية للأشراف لم تسقط في فخاخ هذه القراءة الآثمة للواقع. لذلك وجدنا أن آل الريفي في عهدي مولاي رشيد ومولاي إسماعيل، بتوليتهم على الريف وجبالة والفحص، قد أثمر نتائج مهمة كتحرير طنجة والعرائش والمهدية وحصن باديس ومحاصرة جدية لسبتة. فالدور الجامع لسلاطين الدولة الأشراف، يحقق من منطلق المصلحة العليا للبلاد، منسوبا معتبرا من مناخ التعبئة الوطنية.

2- كما تتحكم في كتابة التاريخ بعض الخلفيات الإديولوجية، كقراءة الوهابية والشيعة لتاريخ المغرب لإضفاء المشروعية على تواجد هذه الطؤائف بالبلاد. من ذلك توظيف وهابية سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث)، ولده المولى سليمان، لتكريس واقع الوهابية كمذهب أول للبلاد في عهد محمد السادس. ويهمنا اليوم الإشارة إلى أبي الربيع مولانا سليمان، حيث بقي ما يزيد من ثلاثة عقود يعترك من أجل المشروعية، حيث شوش ميله الوهابي متعة التمتع بها. ولعل هذه العقدة هي التي حملت صاحب "جمهرة التيجان" على اعتباره من جملة رجال طريق القوم، بل المجسد لحيلة التصوف السني. ما حققه من بسط سيادة الدولة يرجع الفضل فيه إلى العلماء العاملين وشيوخ الزوايا والرصيد الصوفي المغربي المادي والروحي، وقد أخذ الورد الناصري، فبيعة أهل تلمسان (حسب تاريخ الضعيف الرباطي) كانت على يد مولاي العربي الدرقاوي، لتتلوها بيعة أهل مستغانم والبليدة ووهران. وانتهى إلى أن يحرر ولاية العهد لانتقال العرش، لابن أخيه مولاي عبد الرحمن بن هشام، بإشراف(حسب عمدة الراوين في تاريخ تطاوين) من الزاوية الريسونية والوزانية. فسيدي عبد الرحمن ينحدر إليه نسب وحكم سيدي محمد بن الحسن (محمد السادس)، مما يجعل مضامين البيعة الوثقى كتعبير للتعاقد الوطني المتجدد تنهل من هذه الصيرورة التاريخية لنهج البناء الوطني المستقل  .

حرب مولاي سليمان لم تكن ضد "أهل البدع من عيساوة وجيلالة وغيرهم" فقط، بل كانت ضد البربر أيضا، لكن لما وقع في أسرهم (آيت أومالو) سنة 1234، احترموا مقامه كأمير للمؤمنين، و"توجهوا به لمنازلهم موقرا وتبركوا به وعظموا حرمته وقاموا بضيافته وزيارته، إلى أن طابت نفوسهم وساروا به  إلى دار الملك بمكناسة". وقد كان هذا السلوك موضع تقدير من صاحب "الترجمانة الكبرى" وهو أمازيغي بقوله: "فهذه منقبة عظيمة ومكرمة جسيمة ومزية لهؤلاء القوم عميمة". كما  انتقد في المقابل، سلوك "الجند من برابرة الدولة"، غير المطابق لمهام الإخلاص في العمل.

سيلاحظ القارئ الكريم أن بعض الاستطرادات تحكمت فيها انشغالات الحاضر أيضا كحواش تهم الجهوية في الشمال، وتهم ارتباط الغرب الجزائري بأشراف المغرب، قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر بقليل. أما العينات التاريخية التي بسطناها بإجمال على مقتضى عنوان مقال اليوم فتبين أن التقاطب في الماضي كان على المستوى الإثني بين العرب والبربر، وعلى المستوى الإديلوجي بين الوهابية والتصوف، وفي عمق هذا التقاطب كان يسكن هاجس من يملك السلطان.

 

أما في الوقت الراهن فيتلخص هذا التقاطب بين الأصولية والحداثة، وفي تقاطعاتهما بين المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لأمير المؤمنين، ونزوع الوصاية عليه من داخل المؤسسة الرسمية، كما يدبره تحالف المؤسسة الدينية وأصولية المخزن بشقها الوهابي والإخواني، وبالارتباطات الخارجية بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية في ظل الحكومة الملتحية. قراءة هذا النسق في مسعى من يملك الملك، لنهج الردة، سيكون بحمد الله موضوع حلقة من حلقات مهام "فضح الزيف". وهي المهام التي سبق لفقيدنا العزيز سي عبد الرحيم بوعبيد أن طوق بها عاتق المثقفين، عقب ما نصطلح عليه بانقلاب ماي 1960.