الأربعاء 30 أكتوبر 2024
كتاب الرأي

إدريس القري: "من فندق الريف إلى سينما روكسي" هل من بوصلة؟؟

إدريس القري: "من فندق الريف إلى سينما روكسي" هل من بوصلة؟؟

من فندق الريف إلى سينما روكسي عرفت الدورة السادسة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، والمنعقدة بين العشرين والثامن من نفس الشهر الماضي، ديناميكية قوية في جل أطوارها وفقراتها يمكن القول بأنها كانت بمثابة عرض مفصل لأهم ملامح الوضع الحالي للحقل السينمائي الوطني، وذلك باعتباره حقلا يرتبط إستراتيجيا بالحقل الثقافي بالمعنى العام للثقافة الذي تكون بموجبه حقل إنتاج القيمة الحضارية والقدرة على ابتكار تصور للعالم ولتنظيم الحياة الجماعية وأساليب تأثيثها وضبطها وتلبية حاجاتها البيولوجية ورغباتها الوجودية والفكرية والجمالية والروحية لدى شعب من الشعوب، وبالتالي فهو حقل يتدخل مباشرة في بناء المجتمع وتشكيل وعيه من خلال ما يقترحه من نماذج ورموز وأفكار وأنماط سلوك تحملها هذه الرموز النجوم التي يلقى  «صنف» معين منهم التكريم والتبجيل والاحترام شعبيا ورسمي.

الكتابة في هذا الموضوع مغامرة تماما، كما هو القول في فضاءات النقاش، فالخلط مُسْتشر والتَّسْفيه الماكر منه والساذج مُنغرس في قلب حقلٍ يُعوزه الكثير من صفاء الرؤية وقيم الاحترام المؤسس على تقدير الكلام والركون إلى التواضع والتحلي بالقدرة على الإنصات… فقط الحكماء من الجيل الأول وبعض الناضجين من الشباب والقليلون من النقاد المتمرسين يلتزمون بذلك أمام جيش المُحبطين والساعين لتأكيد ذواتهم في سياق لا يليق بخبراتهم وبضع بلهاء يفسدون كل شيء. والنتيجة أن هؤلاء المتدخلين المشوشين على حوار صافٍ ومُفيد يشجعون من هم غير قابلين لتطوير الذات والتبادل، من بعض المهنيين الذين تتجاوزهم ذاتيةٌ وانغلاقٌ على الاستمرار في محاورة خبرات ضاعت منهم، لافتقادهم لبوصلة القناعة بأن خبراتهم لن تكتمل أبدا إلا بحوار لا ينتهي بين التفكير الجمالي والحياة اليومية من جهة، وبين ذات تحمل وجع الواقع في سريرة دافئة بالحب، وعقل نبيه يُخْضِعُ التقنية لنبضِ هذه السّريرة.

على مستوى التخطيط ووضع الغايات والأهداف:

يبدو أن هنالك ضرورة حقيقية لضبط آليات قوية تزكي الفكرة والموقف والقيمة والخبرات والتنوع في التجربة على قاعدة امتلاك، ليس مشروع فقط بل وملامح إرادة وشخصية كاريزمية وقدرات على التعبير والقيادة والتقرير حقيقية كشرط حاسم لاستلام مسؤولية قطاع حيوي يرتبط مباشرة بالعقليات وتكوين المواقف والتأثير على أنماط السلوك والذوق العام والسلوك المواطن وفهم قواعد الانتماء والوجود داخل الجماعة، والكل على قاعدة انتقاء شخصية متحررة ومُحررة من التأثر بما قد يوحى به كباطل صاعق يبدو في صفة الحق: أفلام سينمائية الملامح ضاعت في خضم غير سينمائي واختيارات في قفص (ليس قفص الشعبوية ولا قفص الإدعاء ولا حتى قفص، وبالطبع، الشعبية أو الشعبوية...) المساءلة بصيغة أضحت أصواتها من الندرة بحيث ضلَّتْ مصادرُ أُولِي "الحَزم" الطريقَ دُونها.

فبنية الاختيار ونوعية الأُسس التي يبنى عليها هذا الاختيار، ولماذا ينتصر أساسا في جعل الحقل أكثر انضباطا من الفاعلين فيه أنماط فهم متباعدة حد التناقض: فهل نريد سينما كإبداع ولغة وتقنية حُلتها الجمال والتناغم والإدهاش اقتصادا للحكي وتكوينا قصديا للصورة وتجريبية تُلاحِقُ دفء التواصل وتواتر وتدفق الإيقاع من خلال المونطاج والموسيقى الصانعة للعمق والمتجاوزة للمرافقة وللتأثيث؟ وهل نريد كل ذلك على قاعدة القيم النبيلة والرسالة القوية الإنسانية المنخرطة في الكوني ومن خلاله الإنساني الوطني والقومي؟ إذا كان الأمر غير ذلك فلن نحصد، كما هو الحال في الغالب الأعم إلا التنافر في البنية والاعتيادية في الترصيص البصري والضحالة في العمق الإنساني والتلفزيونيّة في التوجُّهِ والمرهنة على الاجتماعي التسطيحي والمنافق للواقع والمُماري المغزل في استجداء شعبوية كارثية التأثير على الملايين من الذين هم في أمس الحاجة لرموز حقيقية يستنيرون بها في بناء نساء ورجال الغد... إننا أمام أعمال تنهب المال العام لإنتاج المُتبَّلِ بالادعاء لا أكثر.

غالبا ما يكون سبب المشاكل هو صيغة السؤال: لماذا لا نقول ترى من أين يستقي أولي الأمر معايير تعيين ذوي المسؤولية تحكيما وتقريرا ومنحا للثواب والعقاب؟؟ أليس السؤال هكذا أكثر اتجاها نحو مكمن الخلل والعطب؟؟ عوض البحث عن الخلل في النتائج وهي الأفلام وصانعيها متى كانوا خارج سياق الإبداع والإتقان والاصطفاف، كل بحرية الشكل التعبيري، ضمن اتجاه بناء مجتمع يعرف اتجاهه ووجهته؟؟

109

ومع ذلك فلا ينبغي أن ننسى بأن كل معيار في الذاتية الإبداعية وحقل الفنون عموما هو في حد ذاته موقف، وبالتالي فالسؤال لأي قيم ننتصر وبشفافية، في ارتباط بمشروع المواطن والثقافة وبالتالي المجتمع الذي نريد، أساسي وجوهري في تحديد المسار والتمكن من قيادته: فالكتاب والفيلم والمسرحية واللوحة والصورة الفوتوغرافية… لا تنتج إستراتيجية باستخفاف السذاجة ولا بعبثية الجاهل ولا بمكر و"إجرامية" المرتزق؟؟؟

سبب زمن تردي الثقافة والفن هو أساسا اصطفاف الأغلبية في طوابير الوجاهة والكسب السريع والحظوة والطموحات على أساس غير الاحتكام للتأهيل وللتجربة والخبرة القابلة للفحص، وما يزيد الطين بلة هو تدخل السياسي على قاعدة « تأمين» حقل الثقافة من «العصيان» لفائدة الأكثر تنازلا؟؟ ذلك هو ما ينبغي الانتهاء منه لتحيى المؤسسة بمعايير احترافيتها والاستحقاق بمعايير معروفة عالميا والتجارب غير قليلة في هذا الشأن. فالفكر والفن لأهل الفن والفكر والتخصص والتجربة وتراكم الخبرة مع الخضوع للفحص ولمسائلة الناتج والعمل مع فرقٍ مُتكاملةِ العطاء وليس على قاعدة التحالفات والمديح وتقاسم «المصالح المُهرَّبة عُنوة إلى فضاءات خاصة» يُصبح معها التعاقد السياسي بالمعنى الضيق والعام عبثا.... ولست مع وضع الجميع في طابق واحد مسؤولين ونقاد وسينمائيين، لأن في الأمر تمييع وغبن لما يستحقه كل من تحمل المسؤولية بشكل أو بآخر، أما كون شروط الممارسة النزيهة والجادة المسؤولة غير مكتملة لأي كان فهذه حقيقة والتاريخ لا يتأثر بالأمزجة والولاءات بل يسجل الإنجازات، لكن على قدر استيعابية الناس تماما له هو نفسه.. إذ قد يُفترى عليه وقد تتم قراءته مقلوبا لكن إلى حين. كما يمكن أن نخطئ بقوة عند الرغبة في قراءة فيلم ونحن ما زلنا تحت تأثير الانطباع ولم نترك الوقت لاستيعاب التلقي الحسي والجسدي للصور وللأصوات.

لن يجدي الإقصاء ولا التهميش لأنهما، كما لن يجدي التقريب بمنطق خدمة العشيرة والقبيلة، كما بينت التجربة، يكونان بحجم الانفعال والتصفية «الجسدية»، بينما نحتاج تعقلا وقوة حكمة عميقة في التسلل بين مندسين يكاد يكون من المستحيل التخلص منهم إلا بتكيف وصرامة المعايير وقطع الطريق بمؤسسات مضبوطة القيم ولوائع ومقاييس الأداء فوق الأمزجة والسوبرمانات التي قد تنتهي منحرفة إلى الخلط بين الضيعة الخاصة والمؤسسة العمومية.