الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: المثقف التلفزيوني والوجاهة الفكرية

دلال البزري: المثقف التلفزيوني والوجاهة الفكرية

يطلّ على الجمع من صحبه، أو غير صحبه، وفي عينيه بريق النجاح الباهر الذي يؤمن بأنه حققه في آخر موقعة من مواقعه التلفزيونية. وعلى بقية وجهه جمود تام، كأنه أخذ على عاتقه البقاء على التعبيرات نفسها التي التقطتها عدسة التلفزيون بعدما أدمن عليها. يمشي بطيئا بثقل، كأنه ينتظر أن تجتمع كل النظرات على شخصه، قبل أن يتقدم ويأخذ مكانه فيجلس بين أولئك الذين لم يذوقوا، مثله، أمجاد الحكي التلفزيوني. وبعد أن يستريح من استغرابه أن لا يكون هو موضوع الجلسة، يأخذ وضعية الواثق غير المهتم، فيلعبها جدية وصرامة وحتى بعض الأحيان «منهجية». وقبل أن يأخذ نفساً عميقاً، يكون قد اقتحم الكلام ووزع على صحبه شهادات الفهم والمعرفة التي لن تكون يوما من نصيبهم، نظرا لتواضع مكانتهم الثقافية، إذ أنهم لم يذوقوا روعة أن يتكلم الواحد منهم على الشاشة الصغيرة، مثل المشاهير الباقين من سياسيين وفنانين ورياضيين. فيشرع في توزيع العلامات على الأقوال الطالعة، وبشيء من الأسى، ربما لأنه وضع نفسه مكان الأستاذ اللامع المبْتلي بتلامذة غليظي الذهن، لا يفهمون، كسالى، لا يسعون إلى المعرفة.

ولا تحاول أن تنقضه، بصغيرة أو كبيرة، ذاك الأستاذ. لا تحاول أن تغلط، أو تصيب، أو تقول ما يدور في بالك من أشياء... ساعتها تستحق غضب صاحب المرتبة التلفزيونية، فيدخل معك في توصيفات سمجة من نوع «من أين تعرف هذا؟»، أو أخرى خشنة من نوع «أنت لا تفهم شيئا!» أو «كل ما تقوله لا أساس له من الصحة!»؛ ثم يشرع في تفنيد قولك، ليس بما يناظره من وقائع أو معلومات... كلا! هو لا يفعلها! إنما بعرض مدعّم لمختلف أنشطته الذهنية هو في قراءة «التقارير الأجنبية»، التي لن تقرأها أنت، أيها الجاهل الكسول، وفي ما قاله هو على الشاشة، أو إلى الصحافة، ما صرح به، ما أكّده، ما أشار إليه، ما بهر به محاوره، من عيون الفهم والكلام... وكل هذه أنشطة تناقض قولك أنت أيها المغفل، الذي لا يعرفه أحد، لم يره أحد، لم يسمع باسمه أحد...!

فالمثقف التلفزيوني لا يرى غير نفسه، لا يسمع غير نفسه، لا يعشق غير «آرائه»، مبهور بالأضواء التي لا يلبث أن يخرج من الأخيرة، حتى يحلم بغيرها. هو الوريث الشرعي للحزبي أيام زمان، المناضل، القيادي، «العضوي» أو غير «العضوي»؛ اقتبس منه تلك الوجاهة ثقيلة الظل، محمولة على غلظة وثقة غير مبرّرة بالنفس. والفرق الوحيد بين الاثنين، هو كثافة الضوء المنصب على شخصهما الكريمين: الأول، الحزبي، كانت تصل إليه أعين لا يمكن أن تتجاوز أعدادها سعة قاعة المهرجان الذي خطب فيه، وحوّله، لبضع لحظات، إلى إله الذكاء والتخطيط الثوريين. فيما الثاني، التلفزيوني، فإن عدد الأعين المنصبة عليه تُقاس بتلك المنكبّة على الشاشة. ما يجعل المثقف التلفزيوني متفوقا على المثقف الحزبي في الوجاهة، وبدرجات. عليك فقط أن تتخيل...

ما الذي يجرّ المثقف إلى التلفزيون، في هذه الأيام بالذات؟ هل يدافع عن فكرة؟ عن مشروع؟ هل يساهم في سجال يتطور ويأخذ مجاله للترجمة العملية؟ هل يراكم فيه معرفة على معرفة؟ هل يطير طيرانا إلى التلفزيون لأنه راغب بإضحاك هذا المشاهد؟ أو إفراحه؟ أو تسليته؟ الأرجح لا شيء من ذلك؛ فغواية التلفزيون هي لإشباع حاجة تفوق كل الحاجات وكل الأخلاقيات وكل المناهج العلمية والمعارف الأدبية. إنها الحاجة إلى الاعتراف؛ أي إلى أن يطلع على الملأ ما يرسخ «حضور» هذا المثقف في ذهن أقرانه وغير أقرانه من المهتمين. أن تكبر صورته أمامهم، أن يزيد تقديرهم واحترامهم له، أن ترتفع قيمته وقيمة «شغله» أمام العدد الأكبر من الناس؛ أن يرتفع اسمه إلى العالمية، ولمَ لا...؟ وما يجعله بالتالي يستحق الذكرى والتكريم والجوائز والدعوات المنتظمة إلى المؤتمرات والرحلات والفنادق والتشريفات... أي كل الامتيازات التي يتمتع بها المحسودون من بين المثقفين... ذلك أن المثقف التلفزيوني يؤمن بعمق بأن عدم التواجد على الشاشة هو بمثابة الخروج من الحياة كلها.

ولكن لماذا التلفزيون؟ وليس مجالاً آخر، مثل الجامعة؟ أو المسرح؟ أو الجيران؟ أو المقهى؟ أو الأهل؟ أوحتى الأحبة؟ لأن التلفزيون هو المكان الذي يستحوذ على العدد الأكبر من الأنظار. إنه مجال الشهرة بامتياز. والشهرة مفتاح الاعتراف؛ به، يصل المثقف إلى إشباع هذه الغريزة القلقة، التي كان يمكن أن تبقى على درجة من «الطبيعية» لولا مغالاة التلفزيون وفوضويته «الفكرية والذهنية» العارمة. ما يجعل الطلوع على الشاشة من أكثر العمليات هدرا للوقت: ليس فقط لأن عدد الأقنية العربية وحدها فاق الألف، فأصبح نثر الكلمات الطيبة على ربعها من المآثر المجيدة. إنما أيضاً بقياس الوقت الضائع الآخر في التحضير للطلّة، على الطريق المزدحم دائما، وفي أروقة الاستديو، بين الماكيير وانتظار الدور، وأخيرا، الطلّة بحدّ ذاتها وإذا كانت «لايف»، كم من الوقت ليعود إليه الدور، بين إعلان وإعلان، وهكذا... فعندما ترى فلان من المثقفين وقد «مرّ» على كذا قناة، لا يسعك إلا أن تسأل نفسك عن الوقت الذي يمضيه في أعمال يفترض أنها من يومياته: أي أن يقرأ، أن يكتب، أن يسأل، أن يستكشف، أن يهمس، أن يتأمل... بل أن يعيش؟ هذه الحلقة الجهنمية التلفزيونية التي وقع في فخها عدد من المثقفين، حولت مهنتهم إلى مرض نفسي اسمه انتفاخ الأنا بأحجام تتفوق على أي انتفاخات «إيغوتية» (من الإغو) أخرى سبقتها. انتفاخ مثل الغول، يريد أن يلتهم الاعتراف، من التلفزيونات، من الأنظار، من غير الأنظار... حتى الانفجار النفسي الذي يصلح ان يسمى بأزمة الهوية.

وما يفاقم من هذه الأزمة ويحول المثقف التلفزيوني إلى طاووس نافش ريشه بسبب ومن دونه، هو المضمون الذي أتى به إلى التلفزيون. يطرح عليه مقدم البرنامج أسئلة مكررة، تنتظر إجابات مكرّرة. حتى لو كان «الحدث» الذي أتى المثقف إلى التلفزيون للتعليق عليه أو تحليله، بعد انتظار واختناق، فإن «القناعات» التي جاء ليدلو بها لا تتغير. «يفصح» في البداية عن ضرورة التغيير والنقد، ثم يتابع معيدا، بعبارات مختلفة أحياناً، وأحيانا أخرى حرفيا، كل ما قاله في حلقة سابقة أو برنامج سابق. والمشكلة الإضافية أن مقدم البرنامج لا يستمع إليه، هو أتى به كما يؤتى بالمثقف التلفزيوني المشتاق: «الآن، بعد ساعة!»، ليطير إلى القناة بأجنحة النجاح الجديد الذي سوف يحققه ويعزز مقامه أمام البسطاء من المثقفين. محاوره لا ينصت إليه؛ فإما أن «الوقت انتهى... عذرا!»، فيصبح مثقفنا «آوت»؛ وإما أنه ينتقل إلى سؤال آخر مكرر بدوره، ليخرج الجواب إياه. وفي كل الأحوال، يكون مثقفنا قد أضاف إلى سجل عظمته درجة إضافية، جرعه اعتراف، تصبّره بانتظار طلّة جديدة، وناظرها قريب...