Friday 12 December 2025
منبر أنفاس

جمال النافعي: عجلة تتكلم… ووزارة تصمت

جمال النافعي: عجلة تتكلم… ووزارة تصمت جمال النافعي
في البداية لم تمت مفتشتان، في البداية انفجرت عجلة، وهكذا بكل بساطة ميكانيكية انتهت الحكاية الرسمية. العجلة قالت أنا السبب، تقدمت بشجاعة إلى واجهة البلاغ، واعترفت دون محام ودون لجنة تقص، قالت لا تبحثوا بعيدا، لا تجهدوا أنفسكم في مساءلة أحد، أنا المذنبة الوحيدة في هذه القصة. عندها تنفست الوزارة الصعداء، فما أجمل أن يكون للمأساة عذر مطاطي، وما أريح أن تتحول الفاجعة إلى خلل تقني، وأن تختصر الأرواح في ضغط هواء لم يكن مضبوطا كما ينبغي. العجلة لم تكن سيئة النية، كانت عجلة متعبة فقط، عجلة تعرف الطرق أكثر مما يعرفها من يوقعون أوامر التنقل من مكاتبهم المكيفة. قطعت مسافات طويلة وهي تحمل أجسادا تؤدي واجبها، وسمعت شكاوى المحركات، وأنين الفرامل، وصمت المسؤولين. كانت تعلم، مثلما تعلم كل سيارة مصلحة في هذا الوطن، أن الصيانة ترف، وأن السلامة بند مؤجل، وأن المهم هو أن تتحرك السيارة، كيفما تحركت، وإلى أن تتوقف فجأة. قالوا حادثة سير، قالوا قضاء وقدر، قالوا الطريق، قالوا السرعة، قالوا العجلة، ولم يقولوا سيارات متهالكة تدفع إلى الخدمة كما تدفع الخيول العجوز إلى سباق خاسر، ولم يقولوا مهام مستعجلة بلا شروط اشتغال آمنة، ولم يقولوا تدبيرا يقتصد في الحديد ويبدد الأرواح. المفتشتان لم تكونا في رحلة سياحية، لم تطلبا امتيازا ولا سيارة فاخرة، لم تطلبا موكبا ولا سائقا خاصا ولا بطاقة وقود بلا سقف، فقط طلبتا أن تعودا سالمتين بعد أداء واجبهما. في المقابل، هناك من لا يخرج من مكتبه إلا بسيارة حديثة، ومن لا يعرف الطريق إلا من خلف زجاج مظلل، ومن تصان عجلاته قبل أن تتعب، وتفحص مركبته قبل كل سفر، لأن حياته—في ميزان التدبير—أغلى. هكذا تُقسَّم السلامة في هذا الوطن: حماية كاملة لمن يوقع، ومغامرة يومية لمن ينفذ.
 لكن في منطق الوزارة يبدو الطريق مجرد خط على الورق، والسيارة مجرد رقم جرد، والإنسان تفصيل يمكن تعويضه ببلاغ تعزية. العجلة انفجرت نعم، لكنها لم تنفجر وحدها، قبلها انفجر المنطق، وقبل المنطق انفجرت فكرة المسؤولية، وقبل كل ذلك انفجرت المسافة بين من يقرر ومن يركب، بين من يوقع ومن يدفع الثمن. كم من عجلة يجب أن تنفجر كي نقتنع أن الخلل ليس دائريا بل هرميا، وكم من سيارة مصلحة يجب أن تتحول إلى خبر وفاة كي نفهم أن السلامة ليست شعارا ولا فقرة في عرض تقديمي. العجلة قالت كل شيء ثم صمتت، أما الوزارة فصمتها أطول، صمت رسمي مدرّب، يضع وردة تعزية ويمضي إلى جدول الأعمال الموالي. نعم، العجلة هي السبب، فلنغلق الملف، لكن لنتذكر فقط أن العجلات لا تُهمل نفسها، وأن السيارات لا تشيخ وحدها، وأن الموت حين يكون إداريا لا يحتاج قاتلا، بل توقيعا. رحم الله المفتشتين، وأطال الله عمر العجلات، فهي آخر من بقي ليعترف علنا بما لا تريد الوزارة قوله. 
وزيادة في حسن التدبير، جاءت الوثيقة الرسمية الصادرة يوم 10 دجنبر 2025، وثيقة عظيمة التوقيت، متأخرة كسيارة إسعاف بلا وقود، مؤرخة بعناية ومختومة بأناقة، تطلب بكل وقار إداري جرد وسائل العمل وظروف الاشتغال، كأن المفتشتين ما زالتا تنتظران الجواب في قاعة الاجتماعات. تسأل الوثيقة عن حالة المقرات والتجهيزات والسيارات، عن العجلات والحالة الميكانيكية وتاريخ الصيانة، وكأن الإدارة اكتشفت فجأة أن السيارات تحتاج إلى عجلات، وأن العجلات قد تنفجر، وأن الإنسان الذي بداخل السيارة قد يموت. هذه الاستمارات لا تكتب بالحبر بل بالبراءة المصطنعة، مربعات كثيرة لتملأ بعد الكارثة، وخانات واسعة لتبتلع المسؤولية، فالسؤال عن الحالة الميكانيكية بعد الوفاة يشبه سؤال الطبيب عن نبض المريض بعد الدفن. هكذا تشتغل العبقرية الإدارية، تترك الحديد يصدأ، ثم تسأل الورق لماذا مات البشر، فالعجلة التي انفجرت لم تكن خللا تقنيا، بل كانت الإجابة الوحيدة الصادقة في ملف كله أكاذيب مؤجلة، وكانت أرحم من الوزارة، لأنها على الأقل اعترفت."