لم يعد الوضع الذي يواجهه كثير من المهاجرين في إيطاليا شأناً عابراً يمكن تجاهله أو تبريره بخطابٍ رسميٍّ يَعِدُ بالاندماج، بينما تعكس الوقائع اليوميّة صورةً مختلفة تماماً.
ثمة هوة آخذة في الاتساع بين القيم التي يفاخر بها النظام الديمقراطي من مساواة وتكافؤ فرص، وبين ممارسات اجتماعية ومؤسسية تُلقي بظلالٍ من الشك على صدقية تلك القيم.
لقد أصبحت العنصرية، بأشكالها الصريحة والمقنّعة، واقعاً يختبره المهاجر في تفاصيل حياته، وكأن بعض الأصوات ماتزال أسيرة اعتقادٍ قديم مفاده أن الانتماء العرقي أو الثقافي يمنح صاحبه تفوّقاً تلقائياً على الآخرين، وهي مفارقة تُثير الاستغراب حينما يُقصى أصحاب الكفاءات، بل حملة الشهادات العليا – ممن يحملون دكتوراه أو اثنتين – ليُعامَلوا معاملة منقوصة، وكأن العلم الذي راكمته البشرية عبر قرون يمكن اختزاله بنظرةٍ سطحية لا تستند إلا إلى أهواء أو تصوّراتٍ مسبقة.
وفي سياقٍ لا يقلّ تعقيداً، تبرز أزمة السكن وشحّ فرص العمل كعاملين يُفاقمان الشعور بالغبن. فهذه الأزمات التي تعصف بالمجتمع الإيطالي برمّته، تُستخدم أحياناً – عن قصد أو عن غير قصد – ذريعة لتبرير الإقصاء أو فرض شروط مجحفة على المهاجرين. وهنا يظهر شكلٌ آخر من أشكال التمييز البنيوي الذي لا يُصرَّح به ولكنه يُمارَس من خلال آليات سوق غير عادلة.
أما الحسد الاجتماعي الذي يظهر في تعامل بعض الأفراد، فهو انعكاس لعدم ثقةٍ بالنفس أكثر مما هو موقفٌ واعٍ. ومع ذلك، يصبح هذا الحسد سلوكاً خطيراً حين يتحوّل إلى محاولات للنيل من مكانة المهاجر وكفاءته، لا لسببٍ سوى أنّ تفوّقه العلمي أو المهني يضع آخرين أمام مرآة لا يرغبون في النظر إليها.
ومع أن هذه الظواهر مقلقة، فإن النهج الدبلوماسي يقتضي الاعتراف بأن إيطاليا ليست كثلة واحدة، وأن داخلها قوى سياسية ومدنية عاقلة تدرك أن استمرار هذه الممارسات يضرّ بسمعة البلاد وبقدرتها على الاستفادة من الطاقات البشرية التي تستقبلها.
فسياسات الاندماج الحقيقية لا تُقاس بالشعارات، بل بقدرة الدولة على توفير بيئة تحترم الإنسان لكفاءته لا لأصله.
إنّ ما يطلبه المهاجر اليوم ليس امتيازاً ولا استثناءً، بل حقاً طبيعياً: أن يُعامَل وفق ما قدّمه من علمٍ وخبرة، وأن يُنظَر إليه كقيمة مضافة لا كخطرٍ مفترض. وهذا المطلب لا يهدّد أحداً، بل يخدم المجتمع بمجمله، لأن الأمم التي تزدهر هي تلك التي تقيس مكانة الفرد بمساهمته لا بلون بشرته أو لغة أجداده.
ولعلّ الوقت قد حان لطيّ صفحة الأحكام المسبقة، والاعتراف بأن العالم تغيّر، وأن احترام الإنسان – أينما كانت جذوره – لم يعد خياراً أخلاقياً فحسب، بل ضرورة سياسية لضمان استقرار المجتمعات وتقدمها.
مصطفى الحيسوني، دكتور وباحت الجامعي في علوم البحار