Saturday 6 December 2025
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: أزمة الرأسمالية المعاصرة: حدود التوسع ومآلات النظام العالمي

نعيمة بنعبد العالي: أزمة الرأسمالية المعاصرة: حدود التوسع ومآلات النظام العالمي نعيمة بنعبد العالي

 عالم يقف على تخوم مرحلة جديدة.

يشهد العالم اليوم لحظة تاريخية معقدة، تختلف في عمقها وبنيتها عن أزمات النظام الرأسمالي التي عرفها خلال القرنين الماضيين. فالأزمة الراهنة لا تشبه أزمة 1929 التي كانت انهيارًا ماليًا مدوّيًا، ولا أزمة 2008 التي كشفت هشاشة الأسواق العقارية والمالية، بل تبدو أقرب إلى تحوّل بنيوي طويل الأمد يحمل ملامح أزمة حضارية شاملة. لقد استطاع النظام الرأسمالي، منذ نشأته في أوروبا الحديثة، أن يتجاوز أزماته عبر آليات لم تكن يومًا نابعة من داخله، بل جاءت دائمًا من خارج منظومته:
– اكتشاف قارات جديدة،

– دمج مجتمعات جديدة في السوق العالمية،

– ثورات تكنولوجية كبرى،

– أو إعادة تشكيل توازنات القوة.

أما اليوم، فالعالم يبدو كفضاء مكتمل، مغلق الحدود، مستنزف الموارد، قليل الهوامش، ما يجعل السؤال ملحًا: إلى أين يتجه النظام الاقتصادي العالمي حين يفقد شروط تجديده التاريخية؟

يحاول هذا المقال تقديم قراءة تحاول أن تكون مستوفية لأزمة الرأسمالية المعاصرة من خلال أربعة مستويات مترابطة:

جذورها الاقتصادية البنيوية.

دلالتها من منظور تاريخ الحضارات.

معنى اختفاء “الخارج” في عالم معولم.

السيناريوهات الممكنة لمستقبل النظام.

 

 الجذور الاقتصادية البنيوية للأزمة: اقتصاد الدَّيْن: حين يصبح المستقبل رهنًا للحاضر.

منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الرأسمالية الغربية تعتمد بصورة متزايدة على التوسع الائتماني لتعويض تباطؤ الإنتاجية. يوضح كرينر أنّ الاقتصاد الأميركي، على سبيل المثال، لم يعد قادرًا على تحقيق نمو فعلي في الإنتاج، وبالتالي لجأ إلى ما هو أسهل: زيادة الدَّيْن وإغراق المستقبل بوعد الاستقرار.

لكن هذا النوع من النمو ليس نموًا حقيقيًا، بل هو توسع زائف، تغذّيه البنوك المركزية عبر طباعة الأموال وخفض أسعار الفائدة. ويؤدي هذا إلى:

– تضخم أسعار الأصول،

– اتساع الهوّة الطبقية،

– هشاشة دائمة في النظام المالي،

– وغياب قدرة الاقتصاد الحقيقي على خلق الثروة.

لقد أصبح الدَّيْن هو المحرك الأساس للرأسمالية المتأخرة، وحين يبلغ الدين حدوده، كما نرى اليوم، يفقد النظام قدرته على توليد دورة اقتصادية جديدة.

 

 أطروحة أريغي: الدورة الثلاثية للأفول

قدم جيوفاني أريغي أحد أهم التحليلات حول صعود القوى الكبرى وسقوطها، عبر ما سماه الدورات النظامية للتراكم. تمر كل هيمنة عالمية بثلاث مراحل:

مرحلة الإبداع الإنتاجي: تميّزت بها بريطانيا في القرن 18، والولايات المتحدة في أوائل القرن 20.

مرحلة التوسع التجاري العالمي: حيث تنتشر الشركات والبنوك عبر العالم.

مرحلة الهيمنة المالية: عندما يصبح رأس المال المالي أكثر نفوذًا من رأس المال الإنتاجي، وهي المرحلة التي تسبق الأفول التاريخي للدولة المهيمنة.

اليوم، تبدو الولايات المتحدة في ذروة هذه المرحلة الثالثة، أي المرحلة التي تشير في المنطق الأريغي إلى بداية النهاية.

 

 رؤية وولرشتاين: اكتمال النظام-العالَم وتقلّص الهوامش:

 يرى وولرشتاين أنّ الرأسمالية العالمية كانت تتجاوز أزماتها عبر دمج “الأطراف” في النظام:

– مستعمرات جديدة،

– عمالة منخفضة الكلفة،

– موارد طبيعية غير مستغلة.

ومع كل عملية دمج، تتولّد دورة نمو جديدة. لكن العولمة اكتملت تقريبًا. لم يعد هناك “طرف” خارج الاقتصاد العالمي يمكن استيعابه. وبانغلاق النظام على ذاته، تتقلص قدراته على امتصاص الصدمات، وتزداد احتمالات تعرضه لأزمة بنيوية طويلة الأمد.

 

 بولاني: المجتمع الذي ينهكه السوق

يرى كارل بولاني أن السوق إذا تُرك لنفسه دون ضوابط، يبدأ في تفكيك المجتمع الذي يحتضنه.
ويؤكد أنّ الرأسمالية تحتاج دائمًا إلى “حماية اجتماعية مضادة” تأتي من خارج السوق.
لكن الدولة الحديثة فقدت الكثير من قدرتها على تنظيم الأسواق في عصر العولمة المالية.

نتيجة ذلك:

– ضعف الطبقة الوسطى،

– هشاشة الحماية الاجتماعية،

– تصاعد الغضب الشعبي، وتراجع الثقة بالمؤسسات.

 

 الأزمة من منظور تاريخ الحضارات:

 بابل: حين ينهار النظام المكتفي بذاته

تُعدّ بابل مثالًا كلاسيكيًا على الحضارة التي بلغت ذروة القوة ثم انهارت عندما فقدت قدرتها على رؤية المخاطر القادمة من خارج منظومتها. فعندما قام الفرس بتحويل مجرى الفرات، أصبحت المدينة حصنًا بلا مياه، وانتهت دون معركة كبرى.

الدرس واضح: الحضارات التي تفقد علاقتها بالخارج تميل إلى الانهيار.

روما: نهاية التوسع وبداية الانكفاء

ازدهرت روما طالما توفرت لها أراضٍ تسمح بالتوسع. وكان توسعها وسيلة ضرورية لامتصاص التوترات الداخلية. ومع توقف التوسع، دخلت الإمبراطورية مرحلة انتقالية طويلة، حيث

– تضخم الجهاز الإداري،

– ارتفعت الضرائب،

– تراجعت الإنتاجية، وظهرت أزمات سياسية متلاحقة.

ثم جاء “الخارج”—القبائل الجرمانية—لينهي دورة كاملة من التاريخ.

 

الهند ودورات اليوغا: التاريخ كحركة دائرية

تقترح الفلسفة الهندية تصورًا دوريًا للتاريخ، تمر خلاله الحضارات بأربع مراحل:
Krita, Treta, Dvapara, Kali-Yuga.

الأخيرة — Kali-Yuga — هي مرحلة الانحطاط، حيث تصبح الحضارة عاجزة عن تجديد نفسها من الداخل، وتحتاج إلى تدخل “خارجي”.

هذا النموذج يشبه ما نراه في الرأسمالية المتأخرة:

– تباطؤ الابتكار،

– تفكك الروابط الاجتماعية،

– تراكم الأزمات في الداخل.

 

 ابن خلدون: العصبية ومنطق الدولة

قدّم ابن خلدون تحليلاً بالغ الدقة لدورات صعود الدول وسقوطها:

– تنشأ الدول بقوة العصبية،

– ثم تنتقل إلى الرفاه والترف،

– ثم تنفصل النخبة عن القاعدة الاجتماعية،

– فتدخل الدولة مرحلة الوهن. ولا يتجدد النظام إلا بقوة جديدة تأتي من الخارج.

هذا المنطق ينطبق بدقة على النظام العالمي المعاصر.

 

 توينبي وشبنغلر: لحظة فقدان الخيال الحضاري

يرى توينبي أنّ الحضارات تنهار حين تفشل النخب في تقديم “استجابة خلاقة” للتحديات.
بينما يرى شبنغلر أنّ المرحلة الأخيرة من كل حضارة تتسم ﺑ:

– هيمنة التقنية،

– سيادة المال،

– انطفاء الروح الإبداعية،

– وتحول المجتمع إلى آلة كبرى.

بهذا المعنى، تبدو الرأسمالية اليوم كحضارة بلغت أواخر دورة حياتها الثقافية.

 العالم المغلق — اختفاء “الخارج” في العصر الحديث

حدود الجغرافيا:

لم يعد على الخارطة مناطق مجهولة أو قارات جديدة. العالم صار مكتملًا، والجغرافيا لم تعد تمنح فرصًا للتوسع.

 

 حدود التكنولوجيا

رغم الثورة الرقمية، فإنّ الابتكار الكبير — الذي يغيّر شكل الحياة — تباطأ بشدة.
التكنولوجيا اليوم تخلق كفاءة لكنها لا تخلق عوالم جديدة كما فعلت الثورة الصناعية.

 حدود السوق

اكتملت عملية تشبّع الأسواق.

الطبقة الوسطى في الغرب لم تعد قادرة على الاستهلاك كما في الماضي.
والصين لم تعد “طرفًا” بل مركزًا صاعدًا ينافس الغرب.

 حدود الهيمنة

الولايات المتحدة تواجه تراجعًا في قدرتها على فرض القواعد العالمية كما كانت تفعل.
ومع عدم ظهور قوة بديلة واضحة، يعيش العالم حالة انتقالية مفتوحة.

 

  سيناريوهات المستقبل:

 سيناريو الركود الطويل

يشبه حالة اليابان منذ التسعينيات:

– نمو منخفض،

– تضخم شبه معدوم،

– مجتمع شيخوخي،

– مؤسسات منهكة، وسيطرة مالية مزمنة.

 

 سيناريو التفكك الداخلي

صعود الشعبويات،

تآكل الثقة بالديمقراطية،

احتجاجات تتكرر،

تصاعد اليمين المتطرف.

 

 سيناريو التحول البنيوي

قد يظهر نموذج جديد يقوم على:

– تنظيم رأس المال،

– إعادة توزيع الثروة،

– دور أكبر للدولة،

– استدامة اقتصادية،

– وتصور مختلف للعلاقة بين العمل والرفاه.

 

موقع العالم العربي

يمكن للعالم العربي أن يتحول من متلقٍّ للتحولات العالمية إلى فاعل فكرّي واقتصادي إذا أعاد التفكير في نماذج التنمية، ورفض النقل الآلي للمسارات الغربية.

 

نحو سؤال القرن الجديد

تُظهر الأزمة الراهنة أنّ الرأسمالية لا تواجه مجرد هزة اقتصادية، بل لحظة تاريخية تُعلن نهاية الشروط التي قامت عليها.

ولذلك، فالسؤال الحقيقي ليس:

هل ستنهار الرأسمالية؟

بل:
إلى أي نموذج جديد ستتحول حين تفقد “الخارج” الذي غذّى توسعها لخمسة قرون؟

إنّها لحظة لإعادة التفكير في مصير النظام العالمي، وموقع المنطقة العربية في هذا المصير، وإمكانية بناء نموذج مستقل، أكثر عدلًا واستدامة، وأكثر انسجامًا مع شروط القرن الحادي والعشرين.