حين نهضت الذاكرة من سباتها بدا المساء فوق دار المغرب في قلب المدينة الجامعية بباريس وكأنه يحرر الزمن من طبقاته. في ذلك الخميس العشريني من نونبر 2025، لم يكن الحاضر مجرد لحظة عابرة، بل عودة طقسية إلى زمن ظل طويلا وراء الستائر. المعرض الذي افتتح الأمسية جاء كنافذة مفتوحة على الگواميين والتريا̀لة المغاربة، أولئك الرجال الذين لبوا نداء السلطان سيدي محمد بن يوسف ورحلوا إلى حرب لا تشبه قراهم ولا جبالهم ولا مواسمهم، لكنهم حملوا إليها ما لا تحمله الجيوش النظامية: ذاكرة أرض، وشرف بيعة، وصلابة إنسان يتقدم بخطى الجبل حيثما حل.
كانت الجدران تنصت للصمت، وكانت الصور تلمع كأنها تستعيد نبض اصحابها. رجال يعبرون القارات، يكتبون في الظل ما لم تكتبه الحروب في الضوء. لم تكن تلك الوجوه مجرد وثائق تاريخية؛ كانت حجارة دافئة من ذاكرة مغربية طويلة تتحرك من جديد. وفي ذلك الجو المعلق بين الأسطورة والتاريخ، بدأت الأمسية تتخذ شكل انخطاف جماعي، كأن الحضور كله ينحني على ماض صار فجأة أقرب من أي يوم مضى.
ازداد المشهد وقارا بحضور شخصيات دبلوماسية جاءت لتشهد هذا العبور الجديد للذاكرة. كان من بينهم السيد بدر شكري، المستشار السياسي للسفارة، الذي بدا وجوده علامة رسمية على أن الدولة نفسها تصغي لعودة هؤلاء الرجال من الغياب. جلس بهدوء يليق بوقار المناسبة، كأنه جسر بين زمنين: زمن خاض فيه المغاربة حروبا بوصفهم شهودا على عالم يتبدل، وزمن معاصر يحاول إعادة الاعتبار إلى تلك الأسماء التي أحرقتها الحرب في صمت. كان حضوره أشبه بختم ضوئي على لحظة تستعيد فيها الذاكرة مكانتها الطبيعية.
وفي عمق التحليل كانت مسألة الگواميين تتخذ بعدا يتجاوز السرد التاريخي. لم يكونوا مجرد مقاتلين ينفذون الأوامر، بل ظاهرة أنثروبولوجية كاملة. رجال جاءوا من صلصال الأطلس، من القرى المحاطة بالصمت والثلج ومسالك الوعورة. تكوّنوا في فضاء جبلي يجعل الشجاعة عادة يومية، والخفة تكتيكا غريزيا، والوفاء منظومة قيم تنتقل من الآباء إلى الأبناء. حين دخلوا الحرب دخلوا بصفتهم أبناء الجبل، لا بصفتهم أفرادا في جيوش كبرى. قدرتهم على الحركة، على التسلل، على قراءة التضاريس، جعلتهم القوة التي كانت تكتب أدوارها خارج نص القيادات العسكرية. ولهذا فإن استحضارهم اليوم لم يكن مجرد واجب أخلاقي، بل محاولة لاستعادة فهم أعمق للدور المغربي في حرب أعادت تشكيل العالم.
في هذا السياق جاءت مداخلة المؤرخ دانيل ريفيت، الذي وضع المشهد كله ضمن شبكة العلاقات السياسية والفكرية لمرحلة الحماية. كان يفتح طبقات الذاكرة كمن يفتح خريطة تتمدد كلما تقدم فيها، موضحا كيف تشكلت مكانة الگواميين والترية بين المصالح الدولية وتحولات العالم. تحليله الهادئ كان يعطي للأحداث شكلها العلمي المتزن، لكنه لم ينجح في إطفاء ذلك التوتر الحي الذي تركته المداخلات السابقة في صدور الحاضرين.
ثم جاء صوت الأستاذ والمؤرخ مهدي أغويركات ليقلب المعادلة كلها. صعد إلى المنبر كمن يمسك بباب الزمن من مقبضه. لم يكن يقدم محاضرة بل كان يستدعي أرواح الذين غابوا. تحدث عن نداء السلطان، لا كوثيقة سياسية، بل كصوت يشبه النداء الأول للحياة. جعل اللحظة تبدو كأنها حدث روحي عميق اخترق صدور الجنود، فنهضوا إليه بكرامة، لأنها كانت كرامتهم هم قبل أن تكون كرامة الدولة. كان يستحضر الوجوه بحنان مؤرخ يعرف أن التاريخ لا يُكتب بالحروف وحدها، بل بالدموع التي لم تجد مناسبة لتسقط.
تحولت القاعة إلى مسرح للذاكرة. صار الجنود الذين يظهرون عادة في كتب التاريخ كأرقام وجداول، رجالا من لحم وعرق وأحلام مؤجلة. كان الاستاذ مهدي اغويركات يعيد تشكيل الزمن بطريقة تجعل المستمع يشعر أن الحرب لم تغادرنا حقا، وأن كل ما حدث ما يزال يتردد في الهواء إن أصغينا جيدا. لم يكن يشرح، كان يوقظ. لم يكن يعرض تاريخا، كان يبعثه من تحت الرماد.
تواصلت بعد ذلك الموائد المستديرة، وارتفعت شهادات الباحثين والشهود والدبلوماسيين كأنها أجزاء من نشيد واحد. تدفقت القصص، وتداخلت الأصوات، وتحولت القاعة إلى فضاء للبوح الجماعي. بدا واضحا أن الذاكرة ليست مجرد استعادة للماضي، بل محاولة لإعادة التوازن للعالم.
في ختام الأمسية لم يكن أحد يشعر أنه حضر معرضا أو مؤتمرا. كان كل شيء أقرب إلى طقس تطهيري يعيد ترتيب العلاقات بين البشر والزمن. استعادت الوجوه المنسية أسماءها، وإستعاد التاريخ شيئا من عدالته. كان دخول مهدي غويرغات إلى المشهد أشبه بشرارة أيقظت ذلك الشعور بأن الماضي ليس بعيدا كما نعتقد، وأننا لسنا غرباء عنه.
في تلك الليلة كان المساء مغربيا في باريس. وكان التاريخ، لوهلة، أجمل من الحاضر.
