Friday 21 November 2025
منبر أنفاس

محمد بوفتاس: لماذا زوّر بعض المؤرخين العرب تاريخ المغرب وألغوا أمجاد الحضارة الأمازيغية؟

محمد بوفتاس: لماذا زوّر بعض المؤرخين العرب تاريخ المغرب وألغوا أمجاد الحضارة الأمازيغية؟ محمد بوفتاس

من يتتبع المدونات العربية التي أرّخت للمغرب يكتشف منذ الصفحة الأولى أن تاريخ هذا البلد لم يُكتب دائماً بعيون المغاربة، ولا بلغتهم، ولا حسب أولوياتهم الحضارية. لقد صاغ المؤرخون العرب، من المشارقة ومن تأثر بهم في الغرب الإسلامي، سردية تجعل قدوم إدريس بن عبد الله إلى وليلي النقطة التي يبدأ عندها التاريخ الحقيقي للمغرب، وكأن آلاف السنين التي سبقت ذلك كانت مجرد فراغ أو زمن بلا معنى. هذا الاختزال لم يكن بريئاً ولا علمياً، بل كان محكوماً بثقافة سياسية ودينية اعتبرت أن التاريخ يبدأ مع الإسلام، وأن الشرعية لا تُمنح إلا لمن يرتبط بالنسب النبوي أو بالخلافة.

حين كتب هؤلاء المؤرخون عن المغرب، لم يكتبوا عن أرض صامتة كما توحي به كتبهم، بل عن فضاء كان يعج بالحضارات. فقد تعاقبت على المغرب ممالك أمازيغية قوية، من نوميديا إلى المور، مروراً بممالك محلية حكمها زعماء أمازيغ كانوا على اتصال بروما وقرطاج، وامتلكوا تنظيمات سياسية واقتصادية معقدة. غير أن هذه الحقائق الكبرى، مهما كانت قوتها، لم تجد موقعاً مركزياً في المدونة العربية لأنها ببساطة لم تنسجم مع رؤية تجعل من الفتح الإسلامي بداية الوجود، ومن الوافد العربي محوراً لكل تحول تاريخي.

بذلك، جرى تقديم الدولة الإدريسية كما لو كانت دولة مركزية موحدة، بينما الحقيقة التاريخية تثبت أنها لم تكن سوى إمارة محدودة النفوذ، واحدة من إمارات أخرى عدة كانت تتقاسم المجال المغربي. فقد كانت مناطق الأطلس والصحراء والريف وبلاد زناتة وصنهاجة تخضع لسلطات قبلية ومحلية مستقلة نسبياً، بل إن بعضها كان أقوى عسكرياً وتأثيراً من الإمارة الإدريسية نفسها. ومع ذلك، تم تضخيم حجمها ودورها لأنها قدّمت للمؤرخين ما يبحثون عنه: نسباً شريفاً، وشرعية دينية يمكن أن توضع في مقدمة التاريخ وتُبنى عليها بقية السردية.

إن ما يسمّيه البعض “تزويراً” لا يعني بالضرورة مؤامرة مقصودة، لكنه يعني بالتأكيد اختياراً انتقائياً للوقائع. فقد تم تجاهل الروايات الشفوية الأمازيغية لأنها لم تكن مكتوبة، وتم إقصاء الممالك الأمازيغية القديمة لأنها لا تخدم سردية الفتح، كما تم تهميش القوى المحلية لأنها لا تنتمي إلى مركز السلطة. وحين جاء الاستعمار الفرنسي، وجد هذا التشويه جاهزاً فوظّفه بطريقته الخاصة، فاختزل الأمازيغ في صورة “قبائل” بلا تاريخ سياسي، وعزّز فكرة أن تاريخ المغرب يبدأ مع الإسلام وينحصر في السلالة الشريفة.

اليوم، ومع تطور البحث الأركيولوجي واللساني والتاريخي، بدأت تتكشف حقيقة أبسط وأعمق: تاريخ المغرب لم يبدأ مع الأدارسة، ولا مع أي وافد من الخارج، بل بدأ قبل ذلك بقرون طويلة، حين كان الأمازيغ يصنعون حضارتهم بيدهم ويقودون ممالكهم بأنفسهم. إن مراجعة هذه السردية ليست شأناً سياسياً ولا صراعاً هوياتياً، بل هي استعادة لتوازن معرفي واعتراف بحقيقة أن المغرب كان دائماً فضاءً متعدد المراكز، وأن تاريخ الأمم لا يكتبه المنتصرون فقط، بل يكتبه أيضاً أولئك الذين أُقصيت أصواتهم لقرون.