Tuesday 11 November 2025

كتاب الرأي

المصطفى قاسمي: القرار الأممي الأخير حول الصحراء المغربية.. تحوّل في ميزان القوة ورؤية جديدة لمفهوم السيادة الإقليمية

المصطفى قاسمي: القرار الأممي الأخير حول الصحراء المغربية.. تحوّل في ميزان القوة ورؤية جديدة لمفهوم السيادة الإقليمية المصطفى قاسمي
يُشكّل القرار الأخير لمجلس الأمن بشأن الصحراء المغربية (القرار رقم 2797 لسنة 2025) نقطة تحول حقيقية في مسار نزاعٍ دام قرابة ستة عقود، ظلّ خلالها الملف يتأرجح بين منطق الشرعية الدولية ومنطق القوة الجيوسياسية.
القرار، في جوهره، لم يأت فقط لتجديد ولاية بعثة المينورسو كما جرت العادة، بل جسّد تحولًا نوعيًا في مقاربة المجتمع الدولي، إذ انتقل من النظر إلى “الاستقلال” كخيارٍ مركزي إلى اعتبار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الإطار الواقعي والعملي للتسوية.
هذا التحول لا يمكن فهمه إلا في ضوء تغير موازين القوى، وتبدّل هندسة المصالح الدولية والإقليمية، خاصة في ظل تصاعد التهديدات الأمنية بمنطقة الساحل والصحراء.
 
أولاً: من صراع الشرعية إلى واقعية الحل السياسي
منذ وقف إطلاق النار سنة 1991، عاشت القضية حالة من الجمود الاستراتيجي، إذ تمحور النقاش الدولي حول “تقرير المصير” بالصيغة التي تبنتها جبهة البوليساريو والجزائر، أي الاستقلال الكامل كخيار أوحد.
غير أن التحولات الإقليمية، ونجاح المغرب في بناء شرعية تنموية وأمنية في أقاليمه الجنوبية، فرضت معادلة جديدة: شرعية الإنجاز تغلب على شرعية الادعاء.
 
في هذا السياق، أصبح مقترح الحكم الذاتي الذي قدّمه المغرب سنة 2007 أكثر الحلول مصداقية وواقعية بشهادة القوى الكبرى، لأنه يجمع بين مبدإ تقرير المصير في معناه التشاركي (عبر الحكم الذاتي المحلي)، ومبدإ احترام وحدة الدولة وسيادتها الترابية.
وهنا يظهر التحول الجوهري في القرار الأممي الأخير: فقد تراجع الخطاب الأممي عن لغة “الاستفتاء”، وتبنّى لغة “المفاوضات الجدية والواقعية”، وهو ما يعني إقرارًا ضمنيًا بأن خيار الانفصال أصبح متجاوزًا، بل غير قابل للتطبيق عمليًا.
 
ثانياً: إدخال الجزائر في المعادلة - من الظل إلى المسؤولية
من أبرز النقاط المفصلية في القرار الأخير إدخال الجزائر كطرف مباشر في العملية التفاوضية.
فبعد سنوات من محاولتها التملّص من أي صفة طرف، أصبح الموقف الدولي واضحًا: الجزائر ليست مجرّد “جارٍ مهتم”، بل فاعل رئيسي في تأجيج النزاع وتمويل استمراره.
هذا التطور لا يحمل فقط دلالة سياسية، بل قانونية أيضًا، لأنه يُحمّل الجزائر مسؤولية مباشرة عن مآلات الوضع الأمني في المنطقة، ويجعل استمرار تعنتها يُفسَّر — في المنظور الدولي — كنوعٍ من العرقلة المقصودة لمسار السلام، بل كعاملٍ محتمل لزعزعة الاستقرار الإقليمي.
 
القرار بذلك يُعيد توزيع المسؤوليات ويُبرز أن تجاهل الجزائر أصبح مستحيلًا، خصوصًا في ظل تصاعد الإرهاب العابر للحدود في الساحل.
ومن هذا المنطلق، فإن أي رفض جزائري للمسار التفاوضي لن يُقرأ إلا في إطار دعمٍ غير مباشر لبيئات التطرف والانفصال، وهو ما قد يُفقدها الكثير من رصيدها الدبلوماسي في إفريقيا والعالم العربي.
 
ثالثاً: المينورسو والرقابة الذكية للمجتمع الدولي
تمديد ولاية المينورسو ليس إجراءً تقنيًا بقدر ما هو أداة سياسية لقياس جدية الأطراف.
فالتقارير المنتظرة من البعثة ستُظهر بوضوح من يُبدي رغبة حقيقية في الحل، ومن يراهن على الزمن لتجميد الوضع.
كما أنّ القوى الكبرى — وعلى رأسها الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا — ستعتمد هذه التقارير لتحديد خطواتها المقبلة، سواء على مستوى دعم المسار الأممي أو ممارسة الضغط المباشر على الأطراف المعرقلة.
 
وبذلك، يتحول قرار التمديد من مجرد تجديد روتيني إلى آلية مراقبة استراتيجية، تُمكّن المجتمع الدولي من الفصل بين الواقعية السياسية والمزايدات الإيديولوجية.
 
رابعاً: المواقف الدولية بين البراغماتية والمصالح الاستراتيجية
• الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا: تعتبر اليوم الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحل الواقعي الوحيد. هذا الإجماع الثلاثي يُشكّل نواة ضغط دولي متنامية لتسريع التسوية.
• روسيا: رغم امتناعها عن التصويت، فإنّها لم تُبدِ معارضة حقيقية، بل توازن موقفها انطلاقًا من منطق المصالح. فالعلاقات المغربية الروسية اليوم تتسم بالاحترام المتبادل، والتعاون الاقتصادي المتزايد في مجالات الطاقة والأسمدة والأمن الغذائي يجعل موسكو تُراهن على استقرار المغرب كفاعل موثوق في إفريقيا.
• الصين: من الصعب أن تُعارض الصين المغرب في ملف يرتبط بالوحدة الترابية، وهي التي تعتبر مسألة تايوان جزءًا من سيادتها. بل على العكس، للمغرب مكانة خاصة في الذاكرة السياسية الصينية، منذ دعم الملك الحسن الثاني رحمه الله مسعاها للانضمام إلى مجلس الأمن في سبعينيات القرن الماضي.
 
هذه الحقائق تجعل من التحالف المغربي مع القوى الكبرى تحالف استقرار وتنمية أكثر منه تحالف مصلحة ظرفية.
 
خامساً: التحديات الراهنة وفرصة اللحظة التاريخية
تفرض المرحلة الراهنة على المغرب أن يستثمر هذا الزخم الدولي بسرعة وذكاء عبر تقديم مشروع تفصيلي للحكم الذاتي يُترجم الرؤية الملكية إلى آليات دستورية ومؤسساتية واضحة.
هذا التفصيل ضروري لأمرين:
1. لقطع الطريق أمام التأويلات والقراءات المغرضة التي تتحدث عن “غموض” المقترح.
2. لإقناع الرأي العام الدولي والداخلي بأن الحكم الذاتي ليس مجرد شعار، بل نموذج حكم متقدم يوازن بين الانتماء الوطني والإدارة الذاتية.
 
في المقابل، يجب على المغرب أن يُدرك أنّ هناك تيارات سياسية أوروبية، خصوصًا في فرنسا وإسبانيا، ما تزال تُوظّف الملف لأغراض حزبية أو إيديولوجية.
من هنا تبرز ضرورة توحيد الجبهة الداخلية وتغليب المصلحة الوطنية على الخلافات الحزبية، لأن اللحظة التاريخية التي يعيشها المغرب اليوم لا تتكرر كثيرًا في مسار الأمم.
 
خاتمة
إنّ القرار الأممي الأخير ليس نهاية المسار، بل بداية مرحلة جديدة من ترسيخ السيادة المغربية وفق منطق الشرعية الدولية والواقعية السياسية.
هو انتصار دبلوماسي وفكري يُحسب للمدرسة المغربية في إدارة النزاعات، تلك المدرسة التي أسسها المغفور له الحسن الثاني، وواصلها الملك محمد السادس بحنكة وهدوء، جامعًا بين الشرعية التاريخية والشرعية التنموية.
 
لقد دخل الملف اليوم مرحلة النضج السياسي، حيث تلاقت مصالح الدول الكبرى مع منطق الاستقرار الإقليمي، وحيث بات العالم ينظر إلى المغرب لا بوصفه طرفًا في نزاع، بل قوة إقليمية صاعدة قادرة على هندسة السلام في محيط مضطرب.
ومن هنا، فإن الحفاظ على هذا المكسب التاريخي يستوجب من النخبة المغربية، بكل أطيافها، أن تُمارس فكر الدولة لا منطق الحزب، وأن تدرك أن الوحدة الداخلية اليوم هي الامتداد الحقيقي للوحدة الترابية.
 
 
الدكتور المصطفى قاسمي 
استاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية.
جامعة الحسن الاول-سطات