الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

إدريس القري: هل مات بسطاوي حقا؟ ليس هذا عنوان للإثارة بل ضدها

إدريس القري: هل مات بسطاوي حقا؟ ليس هذا عنوان للإثارة بل ضدها

رحم الله محمد بسطاوي وتقبله تحت وارف غفرانه، فقد كان موته حدثا بكل المقاييس. إلا أن هذا الحدث لا تنبع أهميته من اعتباره موتا بيولوجيا أو بالأحرى فيزيولوجيا، حيث يتوقف نسق الجسم عن الحياة التي تتأسس على وظائف حيوية بيولوجية متكاملة، بل باعتبار موت هذا الرجل، الذي بصم بحضوره الحقل الإبداعي الوطني في المسرح أولا ثم في السينما والتلفزيون لاحقا، بقوة أكثر وأوسع، موت ثقافي المعنى، وباعتباره غيابٌ إبداعي وفقْدٌ إنساني يتعدى بالشجن والوحشة التي يفرضها، أسرته الصغيرة التي كانت الأقرب إليه يوميا ووجدانيا وشعوريا وعمليا، إلى أسرته المجتمعية مرورا بأسرته الثقافية الفنية الضيقة فعشاقه من فئات الجماهير المتعددة والمتباينة.

ومع ذلك، فإن ما سبق لا يوفي ابن الشعب بسطاوي حقه كاملا من السمو الذي لن يستقيم الحديث عنه إلا بوضع فقْدِهِ في سياق ثقافي وفني يسمو بِبُعْدِ تمثيليَّةٍ حقيقيّةٍ لقِيم لم يكسبها الكثيرون في حياتهم، وإن بلغوا من "الشّعبية" أكثر مما بلغ المرحوم من "شهرة"، ولعل ذلك يعود بالأساس لاختلاف كل من الشعبية من جهة والشهرة من جهة ثانية في منطق الفكر والإبداع اللذان لا انفصام بينهما:

الأولى، أي الشعبية تحرق مُقترفيها لدوافع ميركانتيلية بئيسة، بلهبها بعد أن تدفئهم بتحقيق شهرة وهمية لم ولن يبلغوها بسبب منطلقاتهم، ولأن لا أساس من الفضيلة للتواطؤات التي تقف وراء ما يركبونه بمنطق أجهض تجارب دول شقيقة لعشرات السنين (الجمهور عاوز كده، والجمهور هو الحكم وهو اللي تيهمني، وأرقام قياس نسبة المتبعة…) بذرائع شتى، وهي تواطؤات قوية تستغل جهل ليس الجماهير العريضة، بل وحتى رقعٍ واسعة من المسؤولين والممثلين للأمة والقائمين على تكوين وتثقيف وإعلام أجيالها. هذه التواطؤات منها "الإعلاموية" ومنها "التقنوية" المضادة لقيم الخير والحق والجمال وما يتفرع عنها من بساطة وتضحية وتواضع وخدمة لقيم الحياة الجماعية ووعي بان الشهرة ولا تخلِّدُ الذكر إلا بما يروجه ويجسده المبدع بها من قيم نبيلة وإنسانية رفيعة وخدمة وتجذير لهذه القيم في الأوطان.

الثانية، أي الشهرة، تكرِّم بل وتخلِّدُ أصحابها محبوبين بما يمثلونه من قرب حقيقي من الناس ونبض معاناتهم، وفيما يمثلونه ويعكسونه إنتاجا وسلوكا من تقاطع مع القيم الجماعية المذكورة أعلاه، والتي كان المرحوم بسطاوي يتمثلها ويمثلها ببساطة وبتلقائية، وقد رأينا ذلك في الواقع مرارا وتكرارا في تحركاته واشتغاله ولقاءاته.

من هذا المنطلق أرى أن سياق موت بسطاوي هو سياق كل شخصية عمومية وطنية وافاها الأجل المحتوم، كل وفق قضائه وقدره، دافعت عن قيم وجسدتها في إنتاجاتها الفكرية أو العلمية أو الفنية أو الاجتماعية ضد تيار العطب القيمي والسلوكي والفكري الرهيب الذي ما زال، ويا لليلٍ طالَ، يجثم على صدر إنتاجاتنا لنماذج في مجالات منها: التسيير والتدبير والتعليم والتربية والتثقيف والإعلام والإخبار والتهذيب، نماذجُ فداحةُ حضورها أخْسَرُ لهذا الشعب المعطاء من اختفائها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

رحم الله سي محمد بسطاوي الممثل المبدع، وسي محمد جسوس المناضل والسوسيولوجي الرفيع، وسي إدريس بنعلي الاقتصادي والمفكر الأصيل، وسي محمد الزايدي المناضل والسياسي الصادق، وسي عبد الله باها السياسي الفاضل، وسي محمد امجيد الجمعوي الكريم، وسي محمد مجد الممثل المبدع، وسي محمد عبد الجابري الفيلسوف المناضل …… إنه سميع الدعاء.