في سياق الجدل الذي أثاره تصريح وزير الصناعة والتجارة، رياض مزور، حول تفاقم أزمة البطالة بالمغرب أمام نقص اليد العاملة في القطاعات الإنتاجية، أكدت عائشة العلوي، أستاذة جامعية وخبيرة في الاقتصاد، ان هذه المفارقة لا تعكس تناقضاً سطحياً في سوق الشغل فحسب، بل تكشف عن اختلالٍ بنيوي في العلاقة بين التعليم والتكوين وسوق العمل، وعن فجوة متزايدة بين مهارات الشباب واحتياجات الاقتصاد الوطني.
وأوضحت عائشة العلوي، في حوار مع "أنفاس بريس"، أن معالجة أزمة سوق الشغل تستلزم رؤيةً عادلةً وشاملة، إذ لا يمكن اختزال المغرب في مدنه الكبرى كالدار البيضاء وطنجة والقنيطرة وأكادير. لذا، يجب أن تنصف السياسات العمومية جميع الجهات.
وأوضحت عائشة العلوي، في حوار مع "أنفاس بريس"، أن معالجة أزمة سوق الشغل تستلزم رؤيةً عادلةً وشاملة، إذ لا يمكن اختزال المغرب في مدنه الكبرى كالدار البيضاء وطنجة والقنيطرة وأكادير. لذا، يجب أن تنصف السياسات العمومية جميع الجهات.
ما تعليقك على المفارقة التي أشار إليها وزير الصناعة والتجارة، حين قال "إن المغرب يعاني من البطالة، وفي الوقت نفسه لا نجد عمالا للعمل في عدد من القطاعات"؟
يشهد سوق الشغل المغربي اليوم مُفارقةً لافتة تستدعي نقاشاً وطنياً جاداً ومسؤولاً: فبينما ترتفع معدلات البطالة إلى مستويات مقلقة، خاصة بين شباب المناطق القروية والجبلية، نجد في المقابل العديد من القطاعات الإنتاجية تعاني من نقصٍ كبير في اليد العاملة. لا تعكس هذه المفارقة تناقضاً سطحياً فحسب، بل تكشف عن اختلالٍ بنيوي في العلاقة بين التعليم والتكوين وسوق العمل، وعن فجوة متزايدة بين مهارات الشباب واحتياجات الاقتصاد الوطني، في ظل التطورات المتسارعة للنظام الاقتصادي والمالي والتكنولوجي العالمي.
فالكثير من العاطلين اليوم يحملون شهادات جامعية في تخصصات نظرية، بينما يتجه الطلب في السوق نحو كفاءات تقنية وميدانية بمستويات متوسطة وعليا. هذا لا يعني الدعوة إلى محاكاة التعليم لسوق الشغل، بل إلى تقارب وتكامل بين المسارين؛ بحيث يظل التعليم العالي فضاءً للبحث والإبداع والتفكير النقدي، مع إدماج بُعد العمل والمهارات التطبيقية. فمن الضروري أن يتفاعل التكوين الجامعي مع الاقتصاد، لا أن ينعزل عنه، عبر مناهج حديثة ومسالك تكوينية تزاوج بين النظرية والتطبيق، وشراكات مستدامة بين الجامعات والمقاولات. مع ذلك، ينبغي ألا ينساق التعليم العالي وراء منطق السوق فقط، فهو يظل حاضنا للفكر والإبداع، وكل تخصص - نظرياً كان أم تطبيقياً - يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في مسيرة التنمية وبناء الإنسان/المواطن. كما يجب تجنب الخطاب التهميشي والسطحي الموجه لشباب اختاروا تخصصات معينة، فهو يحمل في طياته عنفاً نفسياً ويُعمِّق مشاعر الإحباط والعزلة والاقصاء.
ومعالجة أزمة سوق الشغل تستلزم رؤيةً عادلةً وشاملة، فلا يمكن اختزال المغرب في مدنه الكبرى كالدار البيضاء وطنجة والقنيطرة وأكادير. فليس كل شاب قادراً أو راغباً في الانتقال إلى هذه المراكز الصناعية بحثاً عن عمل. لذا، يجب أن تنصف السياسات العمومية جميع الجهات، عبر تحفيز الاستثمار في المناطق القروية والجبلية والواحات، وإقامة مناطق صناعية صغيرة ومتوسطة قادرة على استيعاب الشباب محلياً، وربطها بمؤسسات التكوين المهني الجهوية. فالتنمية العادلة لا تعني خلق فرص العمل فحسب، بل أيضاً توزيعها بعدالة على جميع ربوع الوطن. الهدف ليس تشجيع الهجرة الداخلية، بل الاستثمار في الإنسان وتوفير مجالات الاندماج الاقتصادي والاجتماعي له في محيطه القريب، لتكون الانطلاقة محلية قبل أن تمتد إلى باقي المجالات.
لكن، ما هي هذه القطاعات التي تواجه فعلًا خصاصًا في اليد العاملة داخل المغرب؟ من جهة أخرى، يفترض أن تخلق الاستثمارات الصناعية فرص شغل مهمة وتساهم في امتصاص البطالة؟
طبيعة سوق الشغل الحديثة تجعل التعلم مدى الحياة ضرورةً ملحةً وليس ترفاً. فالمهارات المطلوبة اليوم ليست ثابتة، والوظائف تتطور بسرعة تحت تأثير التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. تبرز أهمية الشراكات التكوينية والمعرفية بين المقاولات الكبرى ومؤسسات التعليم والتكوين، حيث تشارك الشركات في التكوين المستمر لموظفيها ومحيطها المحلي، وتفتح آفاقاً تعليمية جديدة للعاملين والعاطلين على حد سواء. فالمقاولة المواطنة لم تعد مجرد وحدة إنتاج، بل أصبحت فاعلاً تربوياً ومعرفياً ضمن السياسات الوطنية للتنمية. وعليه، يتعين على الحكومة أن تضع شروطاً مسبقة صارمة وتُحسن مراقبة تنفيذها، لضمان التزام الشركات بتوظيف الشباب المغربي القريب من مجالات إنتاجها، والعمل على تحسين مهاراتهم وكفاءاتهم، خاصة على المستوى الترابي. فبعض الشركات الكبرى لا تزال تجلب يداً عاملة أجنبية على حساب العمالة المحلية. فكيف يمكن خلق فرص عمل مستدامة والحد من البطالة طويلة الأمد دون اعتماد سياسات تمييزية إيجابية لصالح الشباب؟
ويمكن تطبيق هذه الاستراتيجية بشكل خاص في القطاعات التي تشهد عجزاً كبيراً في اليد العاملة وتتطلب مهارات تطبيقية مباشرة، مثل: الفلاحة الذكية، والصناعات الغذائية، والنسيج والألبسة، والطاقات المتجددة، والمهن التقنية والرقمية، والصناعات الميكانيكية والإلكترونية، وصناعة الطيران المدني والعسكري والفضاء. في المقابل، تظل قطاعات حيوية أخرى كالتعليم والصحة والبحث العلمي قادرةً على استيعاب الكفاءات العليا، شرط أن يتم تحديث طرق التكوين فيها وتوجيهها نحو المهارات المستجدة. دون إغفال القطاعات الاقتصادية التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني وغيرها.
ويمكن تطبيق هذه الاستراتيجية بشكل خاص في القطاعات التي تشهد عجزاً كبيراً في اليد العاملة وتتطلب مهارات تطبيقية مباشرة، مثل: الفلاحة الذكية، والصناعات الغذائية، والنسيج والألبسة، والطاقات المتجددة، والمهن التقنية والرقمية، والصناعات الميكانيكية والإلكترونية، وصناعة الطيران المدني والعسكري والفضاء. في المقابل، تظل قطاعات حيوية أخرى كالتعليم والصحة والبحث العلمي قادرةً على استيعاب الكفاءات العليا، شرط أن يتم تحديث طرق التكوين فيها وتوجيهها نحو المهارات المستجدة. دون إغفال القطاعات الاقتصادية التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني وغيرها.
بخصوص فئة الشباب العاطلين عن العمل، أو ما يُعرف بـ فئة “Neet” — أي الذين لا يدرسون ولا يتابعون أي تكوين ولا يزاولون عملًا — ما هي الآفاق المتاحة لإدماجهم الاقتصادي والاجتماعي في سوق الشغل؟
كما يُطرح في الآن ذاته سؤال التدابير الوقائية التي يمكن اتخاذها لتفادي اتساع هذه الفئة، ومنع التحاق مزيد من الشباب بها مستقبلاً.
كما يُطرح في الآن ذاته سؤال التدابير الوقائية التي يمكن اتخاذها لتفادي اتساع هذه الفئة، ومنع التحاق مزيد من الشباب بها مستقبلاً.
فيما يخص فئة الشباب الذين لا يدرسون ولا يعملون ولا يتلقون تدريباً (فئة NEET)، فإن إدماجهم اقتصادياً واجتماعياً يستوجب سياسة مندمجة تجمع بين التكوين السريع الموجه للاحتياجات المحلية، والتحفيز على المقاولة الذاتية، والدعم النفسي والاجتماعي المستمر. كما لا بد من اعتماد تدابير استباقية عبر التوجيه المبكر، ومكافحة الهدر المدرسي والجامعي، وتعزيز جاذبية التكوين المهني، حتى لا تتسع رقعة هذه الفئة. كما يجب أن تخصص لهم نسبة من في فرص العمل المحدثة ضمن الاستثمارات الضخمة التي يقوم بها المغرب في عدة مجالات، لأن إدماجهم في استقرار نفسي واجتماعي لهم، وكذا أمن اجتماعي واستقرار سياسي للمغرب.
كما أن التحديات المطروحة اليوم تتجاوز الجوانب التقنية لتلامس عمق القضية الاجتماعية والثقافية. فالمسألة ليست فقط خلق فرص عمل، بل خلق فرص للكرامة والانتماء، تجعل الشباب يرى مستقبله في وطنه لا خارجَه، وينخرط في منطق المساهمة الفاعلة لا الانتظار. لذا، يجب أن يظل ملف التشغيل في المغرب ورشاً وطنياً دائماً، يقوم على التكامل بين الدولة والمقاولة، والجامعة والمجتمع، والمركز والجهات، لبناء اقتصاد منتج قائم على الكفاءة، وإعادة الاعتبار لقيم العمل والإتقان في الضمير الجمعي. ولا مجال في هذا السياق للتهرب من المسؤولية أو إلقاء اللوم على الآخرين، فالجميع معنيّ بهذا التحدي. ولكي تؤتي هذه الجهود ثمارها، لا بد من تسليم مهمة قيادة هذا الملف للكفاءات التي تمتلك المهارات والمعارف العميقة، والقدرة على تبني رؤية استراتيجية واستشرافية، تمكن المغرب من تحويل الشباب إلى عامل اقتصادي حقيقي للتنمية (الاستفادة من العائد الديموغرافي).
من الضروري إذن الاستثمار في المدرسة العمومية ذات الجودة، وربط التعليم بالتكوين المهني منذ المراحل المبكرة، وضمان التوجيه الدراسي الواقعي الذي يساعد التلاميذ على اختيار مسارات مهنية تتناسب مع قدراتهم ومع احتياجات سوق الشغل. كما ينبغي العمل على إعادة الاعتبار للعمل اليدوي والحرفي عبر سياسات تواصلية وثقافية ترفع من قيمته الاجتماعية والاقتصادية، وتربط بين الكفاءة والمكانة لا بين الشهادة والوظيفة/العمل فقط.
في اعتقادي وأخيرا، معالجة مفارقة البطالة وخصاص اليد العاملة لا تتطلب حلولًا ظرفية، بل رؤية وطنية متكاملة تعيد الثقة بين المدرسة/الجامعة والمقاولة، بين الشباب والدولة، وبين الطموح الفردي والمصلحة العامة. فالقضية ليست فقط اقتصادية، بل هي أيضًا رهان اجتماعي وثقافي على مستقبل الأجيال القادمة، وعلى قدرة المغرب على بناء نموذج تنموي يجعل من العمل المنتج أساسًا للكرامة والاندماج والاستقرار.