Sunday 26 October 2025
Advertisement
مجتمع

نزار بركة : تازة... نحو هندسة جديدة للإنصاف الترابي والوحدة الوطنية

نزار بركة : تازة... نحو هندسة جديدة للإنصاف الترابي والوحدة الوطنية نزار بركة
في مدينة تازة، الواقعة عند نقطة التقاء جبال الريف والأطلس المتوسط، قدّم الأمين العام لحزب الاستقلال نزار بركة خطاباً يتجاوز في عمقه حدود اللقاءات الحزبية التقليدية. لم يكن حديثه مجرد تمرين انتخابي أو تواصلي، بل رؤية استراتيجية متكاملة تربط بين العدالة الاجتماعية، والإنصاف المجالي، والسيادة الوطنية، في إطار قراءة شاملة لمستقبل الدولة المغربية.
ففي لحظة وطنية دقيقة، يستعد فيها المغرب لمحطتين بارزتين — اجتماع مجلس الأمن حول قضية الصحراء المغربية والاحتفال بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء — شدّد بركة على أن قوة المغرب في الخارج تبدأ من تماسكه في الداخل.
 
1. السيادة الوطنية ركيزة الوحدة الداخلية
انطلق بركة من التأكيد على أن قضية الصحراء لم تعد مجرد ملف دبلوماسي، بل هي عنوان لثبات الدولة المغربية ووحدة شعبها. وأبرز أن تزايد اعترافات القوى الكبرى بمغربية الصحراء يعكس قناعة دولية بأن مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هي الحل الواقعي والدائم.
لكن الأهم في خطابه أنه ربط هذا الانتصار الدبلوماسي بضرورة ترسيخ العدالة الاجتماعية داخلياً، معتبراً أن تسوية النزاع المفتعل ستمهد الطريق لبناء مغرب عربي جديد قادر على أن يصبح قوة اقتصادية تضم مئة مليون نسمة، قائمة على الاستقرار والتكامل الإقليمي.
إنه تصور استراتيجي يرى أن السيادة والتنمية وجهان لمعادلة واحدة، وأن قوة الموقف الخارجي تستمد مشروعيتها من تماسك الجبهة الداخلية.
 
2. تشخيص اجتماعي دقيق: مغرب بسرعتين لا يمكن أن يستمر
الجزء الأكثر تأثيراً من خطاب بركة كان بلا شك تحليله للوضع الاجتماعي والاقتصادي في إقليم تازة. فبالأرقام، كشف عن واقع مقلق: 29% من البطالة و49% من الفقر في بعض المناطق الجبلية، مقابل معدلات وطنية أدنى بكثير.
وأعاد التذكير بكلمات الملك محمد السادس: «لا مكان اليوم ولا غداً لمغرب يسير بسرعتين»، داعياً إلى تغيير جذري في نموذج التنمية الترابية.
يرى بركة أن تركّز الثروة في ثلاث جهات فقط تمثل 60% من الناتج الداخلي الخام يهدد التوازن الوطني، وأن تجاوز هذا الخلل يتطلب الانتقال من السياسات القطاعية إلى مقاربة مندمجة تجمع بين البنية التحتية، التعليم، الصحة، التشغيل، والرقمنة، في إطار رؤية مجالية شاملة ومتكاملة.
 
3. من حجم الإنفاق إلى أثره: معركة الحكامة والنجاعة
في مقطع بالغ الدقة، انتقل بركة إلى نقد عميق لمنظومة تدبير الاستثمار العمومي، مؤكداً أن المشكل لم يعد في حجم الموارد بل في أثرها على المواطن.
وأشار إلى أن قانون مالية 2026 خصّص 140 مليار درهم لقطاعي التعليم والصحة — أي ثلاثة أضعاف الميزانية المخصصة لاستضافة كأس العالم 2030 — في إشارة رمزية إلى أن الأولوية يجب أن تُمنح للخدمات الأساسية التي تعزز الثقة والمواطنة.
لكن بركة حذّر من أن ضخ الأموال لا يكفي دون إصلاح آليات التتبع والتقييم والشفافية. فـ”الحكامة الجيدة”، كما قال، هي الشرط الأساسي لتحويل الاستثمارات الكبرى إلى نتائج ملموسة تُحسّ في الحياة اليومية للمغاربة.
 
4. الندرة المائية والتغير المناخي: التحدي الصامت
لفت بركة الانتباه إلى أزمة مائية خطيرة يعيشها إقليم تازة، حيث انخفضت حصة الفرد من الماء إلى 200 متر مكعب سنوياً مقابل 650 متراً مكعباً وطنياً.
واعتبر أن هذه الوضعية تنذر بتداعيات اقتصادية واجتماعية حادة، ما يستدعي سياسة مائية ترابية تقوم على ترشيد الاستهلاك، واستعمال التقنيات الحديثة في الري، والاستثمار في إعادة استعمال المياه العادمة وتغذية الفرشات المائية.
وفي رؤيته، لا يمكن فصل التنمية القروية عن الأمن المائي، ولا يمكن بناء استقرار اجتماعي دون مواجهة مباشرة لتأثيرات الجفاف والتغير المناخي، في تماهٍ مع الريادة البيئية للمغرب في إفريقيا.
 
5. الاقتصاد المحلي: من الإمكان إلى الفعل
أكد بركة أن تازة تمتلك مقومات فريدة — موقع استراتيجي، طبيعة خلابة، وتاريخ عريق — لكنها لم تتحول بعد إلى قاطرة تنمية.
ودعا إلى الاستثمار في السياحة الإيكولوجية، والصناعات التقليدية، والتجارة الرقمية، والفلاحة المحلية ذات القيمة المضافة، مبرزاً أن نجاح هذه القطاعات رهين بتوفير بيئة استثمارية محفزة، وبنية تحتية حديثة، وشراكات بين القطاعين العام والخاص.
وأوضح أن الميثاق الجديد للاستثمار يمنح امتيازات خاصة للمستثمرين في الأقاليم الداخلية مثل تازة، حيث تقدم الدولة دعماً يصل إلى 10% من كلفة المشروع، وهو حافز ينبغي استثماره لخلق نسيج اقتصادي محلي منتج ومستدام.
 
6. المشاركة السياسية ومصداقية المؤسسات
في ختام كلمته، وجّه بركة تنبيهاً سياسياً واضحاً: ضعف المشاركة في الانتخابات المقبلة سيؤثر سلباً على مصداقية المؤسسات المنتخبة، وبالتالي على قوة الموقف التفاوضي المغربي في ملف الحكم الذاتي.
إنه تحذير يتجاوز الاعتبارات الانتخابية إلى البعد الاستراتيجي: فـالشرعية الديمقراطية الداخلية هي سند الشرعية الدبلوماسية الخارجية.
ومن هذا المنطلق، دعا بركة إلى تعبئة وطنية لتعزيز الثقة بين المواطن والدولة، من خلال شفافية القرار العمومي، وعدالة التوزيع، وتحقيق نتائج ملموسة يشعر بها الناس في معيشتهم اليومية.
 
7. رؤية جامعة: السيادة والعدالة وجهان لوطن واحد
خطاب تازة لم يكن سياسياً فحسب، بل وثيقة فكرية تؤسس لمعادلة مغربية جديدة:
أن السيادة الترابية لا تكتمل إلا بالعدالة الاجتماعية، وأن الاعتراف الدولي لا يُغني عن التماسك الداخلي.
من هنا، يتبدى مشروع نزار بركة كصيغة حديثة للمدرسة الاستقلالية: وطن قوي بسيادته، عادل بمجالاته، متوازن في ثرواته، وديمقراطي في مساراته.
إن خطاب نزار بركة في تازة يشكّل لحظة وضوح في النقاش الوطني حول العدالة المجالية والحكامة الترابية. فهو لا يكتفي بالتشخيص، بل يطرح معادلة سياسية جديدة:
الاستقرار الدائم لا يتحقق إلا بتكافؤ الفرص بين الجهات، والسيادة الوطنية لا تترسخ إلا بالعدالة الاجتماعية.
 
بهذه المقاربة، يضع بركة حزب الاستقلال في موقع الوسيط بين التاريخ والمستقبل، بين الذاكرة الوطنية والمشروع التنموي الحديث، في وقت يبدو فيه المغرب مقبلاً على مرحلة جديدة تتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين المركز والهامش، في أفق مغرب واحد يسير بسرعة واحدة.