بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»
(سورة التوبة، الآية 105)
تأتي هذه الآية الكريمة دعوةً ربانية إلى العمل الصادق، وإلى تحويل الغضب إلى طاقة بناء، واليأس إلى فعل مسؤول. وهي أيضًا المفتاح لفهم الخطاب الملكي ليوم 10 أكتوبر 2025، الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الأخيرة من الولاية الحالية للبرلمان.
فالخطاب، وإن لم يذكر الاحتجاجات الأخيرة بشكل مباشر، جاء في مضمونه جوابًا هادئًا وعميقًا على تساؤلات الشباب، وعلى ما يجري في الشارع المغربي من توتر ومطالب اجتماعية مشروعة.
1. الخطاب في سياقه: غضب الشارع وأسئلة الأمل
خرج آلاف الشباب في الأسابيع الماضية إلى الشوارع في مدن مغربية عديدة، تعبيرًا عن ضيقٍ حقيقي من الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وعن شعورٍ بعدم الإنصاف في توزيع فرص الحياة.
كانت تلك الاحتجاجات مرآة لجيلٍ جديد يعيش في عالم مفتوح، يتواصل بسرعة، ويقارن نفسه بشعوب أخرى، لكنه يشعر أن التغيير في بلده أبطأ من طموحه.
ولم يكن خطاب الملك غافلاً عن هذا الواقع. لقد اختار أن يجيب بلغة الدولة العاقلة لا بلغة الانفعال، فذكّر بأن العدالة الاجتماعية والمجالية هي القضية الكبرى التي تتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني، وأن الهدف الأسمى هو أن يستفيد كل مغربي، أينما كان، من ثمار التنمية وتكافؤ الفرص.
2. جوهر الخطاب: وعي ومسؤولية جماعية
ركز الخطاب الملكي على فكرة محورية:
«لا ينبغي أن يكون هناك تناقض بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، ما دام الهدف هو تنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين».
هذه العبارة البسيطة تُعيد ترتيب الأولويات:
فلا يمكن للوطن أن ينجح إذا انقسم إلى شارع غاضب وسلطة صمّاء، ولا يمكن للمشاريع الكبرى أن تزدهر إن لم يشعر المواطن بأنها تخصه. المطلوب إذن هو التكامل بين الدولة والمجتمع، بين الشباب الطامح وصناع القرار، لأن التنمية ليست طريقًا مفروشًا بالوعود، بل مسؤولية مشتركة تبدأ بالوعي وتنتهي بالفعل.
الملك، وهو يخاطب البرلمان، كان في الواقع يخاطب الشعب كله:
السياسيين ليقوموا بواجبهم التشريعي والرقابي، والمنتخبين ليقتربوا من الناس، والإعلام ليمارس التنوير بدل التحريض، والشباب ليفهم أن الغضب وحده لا يصنع التغيير، بل العقل والاقتراح والمثابرة.
3. الرسالة الضمنية: العدالة الاجتماعية طريق الاستقرار
حين دعا الملك إلى “تسريع مسيرة المغرب الصاعد”، لم يكن يقصد فقط النمو الاقتصادي أو المشاريع الكبرى، بل العدالة الاجتماعية والمجالية كأساس للاستقرار.
العدالة في توزيع الفرص، في التعليم، في الصحة، وفي الكرامة.
هذه ليست شعارات بل رؤية متكاملة، إذا ما تُرجمت إلى برامج ملموسة، يمكن أن تُعيد الثقة بين المواطن والدولة.
فجوهر الخطاب كان دعوة إلى تغيير العقليات قبل القوانين، وإلى بناء جسر جديد من الثقة بين الشباب والمؤسسات، حتى يشعر الجميع بأن الإصلاح ممكن، وأن صوت المواطن مسموع داخل مشروع وطني جامع.
4. الآية الختامية.. رسالتها العميقة
ختم جلالة الملك خطابه بقوله تعالى:«فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»
(سورة الزلزلة، الآيتان 7–8)
هذه الآية ليست مجرد خاتمة دينية، بل رسالة رمزية إلى الجميع.
إنها تذكير بأن كل فعل، مهما بدا صغيرًا، له أثر في ميزان الوطن والضمير:
• من يعمل بإخلاص من أجل الخير والعدالة سيرى ثمرة جهده.
• ومن يظلم أو يزرع الفتنة أو يتهاون في الأمانة، سيرى نتيجة فعله كذلك.
الآية تحمل وعدًا إلهيًا بالعدل، وتنبيهًا خفيًا بأن الإصلاح لا يكون بالصدام، بل بالعمل الصالح والنية الصادقة.
إنها تقول لنا جميعًا: لا تستهينوا بمثقال الذرة من الخير، فبها تُبنى الأوطان وتستقيم الموازين.
5. نداء إلى الشباب المغربي
يا شباب المغرب،
احتجاجكم ليس خطأ، بل دليل على حياة المجتمع ووعيه.
لكن الاحتجاج لا يصبح إصلاحًا إلا إذا تحوّل إلى مشروع مقترحات وأفكار.
الخطاب الملكي لم يُغلق الباب أمامكم، بل فتحه واسعًا أمام المشاركة والحوار والعمل.
شاركوا، ناقشوا، انتقدوا، ولكن بحكمة ومسؤولية.
لا تتركوا الغضب يُستخدم ضد وطنكم.
تذكّروا أن المغرب ليس خصمًا، بل هو أنتم، وأن التغيير الحقيقي لا يصنعه من يصرخ فقط، بل من يبني ويصبر ويؤمن.
خاتمة:
الخطاب الملكي ليوم 10 أكتوبر 2025 هو وثيقة وعي ومسؤولية، أكثر منه خطابًا سياسيًا.
فيه تأكيد على أن التنمية والعدالة لا تُمنح من فوق، بل تُصنع من تفاعل الجميع: الدولة، والمجتمع، والشباب.
أما الآية الختامية فهي البوصلة الأخلاقية لهذا الزمن:«فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ»
هي دعوة لأن نجعل من غضبنا بذرة خير، ومن أملنا طاقة بناء،
ولنوقن أن الوطن لا ينهض إلا بأيدي أبنائه، وبوعيهم، وبحبهم الصادق له.
الدكتور فؤاد ابن المير، باحث في علم الاجتماع