Saturday 27 September 2025
مجتمع

المقهى… حين يفقد الفضاء العام هدوءه

المقهى… حين يفقد الفضاء العام هدوءه المقهى.. بين سحر الفضاء العام وضجيج السلوك الفردي
في المخيال المغربي المقهى ليست مجرد كرسي وطاولة وفنجان (قهوة نص نص) أو (اتاي معشب) إنها جزء من بنية المدينة الحديثة، وامتداد للصالونات والأندية التي عرفتها بعض المجتمعات العريقة، حيث يتقاطع النقاش السياسي مع الهم الثقافي، وحيث تولد الصداقات بقدر ما تُصاغ المواقف. لقد تحوّل المقهى من مجرد فضاء استهلاكي إلى مؤسسة اجتماعية قائمة بذاتها: فضاء يلتقي فيه الطلبة، ويحتضن العاملين عن بُعد وحملة الحواسيب المحمولة، ويستضيف جلسات القراءة والعروض الفنية في صيغته الجديدة كمقهى ثقافي .إن المقهى اليوم ليست هامش  للوقت الضائع، بل قلب الحياة المدنية النابض، ولهذا فإن أي حديث عن الضجيج داخله ليس انتقاصًا من قيمتها، بل دفاع عن مكانتها كرمز للمدنية واحترام الفضاء العام.
 
فالكلام بصوت مرتفع في الفضاءات العامة ليس ظاهرة جديدة، بل هو سلوك قديم ارتبط بالطابع البدوي للحياة الجماعية، حيث كان ارتفاع الصوت علامة على الحضور وإثبات الذات وسط الجماعة. لكن حين انتقل جزء كبير من المجتمع إلى المدن، لم يرافق هذا الانتقال تغيير موازٍ في السلوك. وزاد الطين بلة دخول الهواتف الذكية على الخط، فحوّلت الضجيج من مجرد أحاديث جماعية صاخبة إلى مكالمات هاتفية تكشف أدق الخصوصيات العائلية والمهنية، أو مكالمات مصوّرة (فيديو) تتحول إلى عرض علني، أو متابعة لبرامج ومنصات “يوتيوب” بصوت مرتفع دون أي اعتبار للآخرين. في المدن الحديثة، حيث الفضاء عمومي ومشترك، كان من المفترض أن يواكبه وعي جديد بضبط الصوت واحترام خصوصية الغير. “الفضاء العمومي هو مساحة للتعايش واحترام التعدد”. (حنة أرندت) غير أن ما نراه اليوم هو استمرار لثقافة البادية في قلب المدينة، تجعل من الصوت العالي عائقًا أمام الانتقال من منطق الجماعة إلى منطق المواطنة.

هذه الظاهرة لا تنحصر في المقاهي. في الأسبوع الماضي، شاءت الظروف أن أستقل القطار فائق السرعة “البُراق” متجهًا نحو طنجة في غرض اجتماعي. كانت المقصورة ممتلئة، وكان شابان يتحدثان بلكنة شمالية عن واقعة اجتماعية تخص أسرة أعرف ربّها بالاسم. استرسل الشابان في الحكي بصوت مرتفع، يسردان تفاصيل شخصية مغلوطة عن تلك الأسرة، بينما المسافرون يرمقون الموقف باستغراب. جلست أستمع، مضطرًا، وأنا في غاية الانزعاج: فلا يمكنني تصحيح الوضع ولا مغادرة المقصورة. المفارقة أن “البُراق” وسيلة نقل حضارية، لكن السلوك ظل بدائيًا يفتقد الحس المدني.

قد يقول قائل: ما الحل؟ لعلنا نستحضر تجربة منع التدخين. في البداية، لم يكن أحد يتصور أن سيجارة صغيرة ستُطرد من الطائرة والمقهى والقطار والمكتب. بدأت الحكاية بلوحات متواضعة تطلب من الزبائن بكل لطف ألا يدخنوا، ثم مع الوقت صار القانون سيد الموقف. فهل يمكن أن يتكرر الأمر مع الضجيج؟ هل نتخيل  أن نصحو على قانون يمنع المكالمات الهاتفية في المقاهي والقطارات؟ بطبيعة الحال، يبدو الأمر مستحيلًا، فالهواتف اليوم امتداد لذواتنا. لكن الفكر البشري يملك دومًا طرافة في ابتكار حلول لما نعتقد أنه عادات راسخة. أليس في الأمر متعة أن نفكر جديًا – وبقليل من الدعابة – في “قانون الصمت” كما فكرنا من قبل في “قانون منع التدخين”؟

فكما دافعنا عن الحق في الصحة بحظر التدخين، علينا أن ندافع اليوم عن الحق في الراحة والسكينة داخل فضاءاتنا المشتركة. المدينة ليست فقط عمرانًا، بل هي أيضًا أسلوب عيش، ولن تكون مدننا حضرية بحق ما لم نعد الاعتبار إلى الهدوء كقيمة مدنية.

اخفض صوتك… وارفع سلوكك.