Friday 26 September 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حميدي: لماذا الحاجة إلى مناظرة وطنية للتخييم؟

عبد الرفيع حميدي: لماذا الحاجة إلى مناظرة وطنية للتخييم؟ عبد الرفيع حميدي
بين رهان التربية على القيم وتحديات الرقمنة والعدالة المجالية
 
في قرية نائية بالأطلس، يقضي مئات الأطفال عطلتهم الصيفية دون أن يعرفوا معنى المخيم… بينما في المدن الكبرى، يتزاحم آلاف آخرون على فضاءات محدودة، لا تتسع إلا لجزء يسير منهم. بين هذا الواقع وتحديات الحاضر، يطرح سؤال مركزي: ألا نحتاج اليوم إلى مناظرة وطنية تعيد الاعتبار للتخييم كحق تربوي واجتماعي؟
 
لم يعد الحديث عن المخيمات الصيفية مجرد نقاش حول فضاءات للترفيه وقضاء العطلة المدرسية، بل أصبح جزءًا من الرهان الوطني على بناء الإنسان، وتحصين الطفولة والشباب، وإعدادهم لمواجهة تحديات المستقبل. غير أن هذا الدور النبيل يصطدم اليوم بجملة من الإكراهات، تجعل الحاجة إلى مناظرة وطنية شاملة للتخييم مسألة راهنة وملحّة.
 
واقع يطرح أكثر من سؤال

قطاع التخييم بالمغرب، رغم تاريخه الممتد منذ بداية الاستقلال، ما يزال يعاني من اختلالات بنيوية متعددة تعيق تحوله إلى رافعة استراتيجية للتربية والتنمية فعلى مستوى العرض والبنيات التحتية، يظل عدد المخيمات محدودًا للغاية مقارنة بالحاجيات الفعلية، إذ لا تتجاوز الطاقة الاستيعابية بضع الآلاف، في حين يتجاوز عدد الأطفال والشباب الراغبين في الاستفادة عشرات الآلاف سنويًا. هذا الخصاص يجعل المخيمات امتيازًا أكثر منه حقًا عامًا، ويؤدي إلى إقصاء فئات واسعة، خصوصًا في الوسط القروي والمناطق الهشة.

أما على مستوى المحتوى البيداغوجي، فالمخيمات لم تعرف تجديدًا جوهريًا منذ عقود ما يزال العديد من البرامج يعتمد على أنشطة كلاسيكية (ألعاب الهواء الطلق، أناشيد تقليدية، ورشات يدوية بسيطة)، دون مراعاة للتحولات الكبرى التي تعرفها الأجيال الجديدة، سواء من حيث اهتماماتها المرتبطة بالتكنولوجيا والرقمنة، أو حاجتها إلى تنمية مهارات حياتية حديثة كالعمل الجماعي، القيادة، التفكير النقدي، أو التربية البيئية. غياب هذا التحديث يجعل المخيمات في أحيان كثيرة غير جاذبة، أو غير قادرة على منافسة البدائل الترفيهية الرقمية التي تستهوي الأطفال والشباب.

وعلى مستوى التأطير التربوي، يطرح التحدي نفسه بحدة أكبر. إذ يعتمد جزء كبير من الجمعيات المنظمة للمخيمات على متطوعين شباب، يملكون الحماس والإرادة، لكنهم يفتقرون غالبًا للتكوين الأكاديمي المتخصص في علوم التربية، علم النفس، أو حماية الطفولة هذا الوضع يؤدي أحيانًا إلى قصور في التعامل مع بعض الحالات الخاصة (أطفال في وضعية إعاقة، أطفال يعانون من صعوبات نفسية أو اجتماعية)، بل وقد يعرّض المستفيدين لمخاطر إذا لم تتوافر الكفاءات الأساسية في مجالات السلامة الصحية والتغذية والإسعافات الأولية
إن هذه الاختلالات مجتمعة تطرح بإلحاح سؤال الحكامة: كيف يمكن لقطاع عمره أكثر من ستة عقود أن يظل في منطق المبادرات الموسمية المتفرقة، بدل أن يتحول إلى سياسة عمومية متكاملة تستجيب لحق الطفولة في الترفيه والتربية والتنشئة؟
 
تعدد الفاعلين… وغياب التنسيق

يشارك في تدبير قطاع التخييم عدة أطراف حكومية وغير حكومية وزارة الشباب والثقافة والتواصل باعتبارها القطاع الوصي، وزارة التربية الوطنية لما لها من علاقة مباشرة بالطفولة والتربية، الجماعات الترابية بصفتها مالكة لمساحات ومنشآت يمكن أن تُوظّف في التخييم، الجمعيات المدنية باعتبارها الفاعل التاريخي والميداني الرئيسي، وأحيانًا شركاء خواص يساهمون في التمويل أو توفير الخدمات. غير أن هذا التعدد الذي يُفترض أن يكون عنصر قوة وغنى، تحوّل في الواقع إلى مصدر تشتت في الرؤية وتداخل في الأدوار.
 
ففي غياب إطار تنسيقي وميثاق وطني واضح، نجد أن كل جهة تشتغل وفق أجندتها الخاصة، مما يخلق ازدواجية في القرارات ويُضعف النجاعة أحيانًا يتم إطلاق مبادرات متوازية أو متعارضة، وتُهدر الموارد والطاقات بدل أن تتكامل هذا الوضع انعكس بشكل مباشر على الحكامة، حيث تغيب الشفافية في تدبير الميزانيات، ويصعب تقييم الأثر الحقيقي للمخيمات على الطفولة والشباب.
 
إضافة إلى ذلك، يعاني القطاع من غياب قاعدة معطيات وطنية موحدة، ما يجعل التخطيط مبنيًا على تقديرات عامة بدل مؤشرات دقيقة، ويعقّد عملية التتبع والمحاسبة وهكذا يظل السؤال مطروحًا من المسؤول فعليًا عن وضع السياسات، ومن المكلّف بالتنفيذ، ومن يقوم بالتقييم والمساءلة؟.
 
إن الدعوة إلى مناظرة وطنية للتخييم تأتي هنا كفرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، من خلال صياغة ميثاق وطني للتخييم يُحدّد بشكل دقيق الأدوار والمسؤوليات لكل طرف آليات التنسيق والتواصل بين الفاعلين
مؤشرات للقياس والتقييم الدوري
نظام تمويل مستدام وشفاف
بهذا الشكل يمكن أن يتحول التعدد من مصدر ضعف إلى مصدر قوة، ويُعاد الاعتبار للتخييم كسياسة عمومية مشتركة، لا مجرد نشاط موسمي أو مبادرات مشتتة
 
العدالة المجالية: أطفال القرى في الهامش
 
المخيم حق تربوي واجتماعي مكفول لكل طفل، غير أن الواقع الميداني يفضح حجم التفاوتات الصارخة في الاستفادة فالأرقام والتجارب الميدانية تُظهر أن النسبة الكبرى من المستفيدين من العروض التخييمية ينتمون إلى الوسط الحضري، حيث تتركز البنيات التحتية والموارد البشرية والجمعيات النشيطة في المقابل، يبقى أطفال القرى والمناطق الجبلية والهشة على هامش التجربة التخييمية، إما بسبب غياب المخيمات القارة في محيطهم، أو بسبب ارتفاع كلفة التنقل واللوجستيك، أو لانعدام المعلومات والتواصل حول فرص الاستفادة.
هذا الوضع يُنتج إقصاءً مجاليًا مضاعفًا فإلى جانب حرمان هؤلاء الأطفال من حقهم الطبيعي في الترفيه والتربية غير النظامية، يُعمّق غياب المخيمات في العالم القروي الفوارق الاجتماعية والثقافية، ويحرمهم من فرص الانفتاح على أقرانهم من مناطق أخرى، ومن تجارب تبني في شخصياتهم الثقة والقدرة على الاندماج.

إن أي رؤية استراتيجية جديدة لقطاع التخييم لا يمكن أن تتجاهل العدالة المجالية كركيزة أساسية. فالمناظرة الوطنية للتخييم مطالبة بطرح هذا الموضوع على رأس الأولويات، من خلال إإحداث مخيمات قارة وبنيات تحتية ملائمة في الأقاليم النائية والمناطق القروية
إقرار دعم مالي ولوجستي خاص بالأطفال في وضعية هشاشة، لتغطية مصاريف المشاركة والتنقل
إشراك الجماعات الترابية في توفير فضاءات وتجهيزات قريبة من الساكنة القروية
اعتماد مقاربة تمييز إيجابي تمنح الأفضلية للفئات والمناطق الأقل استفادة تاريخيًا
بهذه المقاربة يمكن للمخيم أن يتحول إلى أداة لتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، بدل أن يكون امتيازًا حضريًا تستفيد منه فئة دون أخرى إن تعميم الحق في التخييم ليس مجرد شعار، بل هو استثمار في العدالة الاجتماعية والتماسك الوطني، وهو ما يجعل المناظرة الوطنية مناسبة تاريخية لفتح هذا الورش الكبير
 
المخيم كرافعة للتربية على القيم
 
المخيمات ليست مجرد فضاءات للترفيه الموسمي، بل هي في جوهرها مختبر تربوي واجتماعي لبناء شخصية الطفل والشاب فهي تمنح الناشئة فرصة العيش المشترك بعيدًا عن محيطهم الأسري والمدرسي المعتاد، وتفتح أمامهم تجربة جماعية تعلمهم الانضباط، تقبل الاختلاف، وتقاسم المسؤوليات اليومية.

في ظل عالم يعرف تصاعدًا لخطابات الكراهية والتطرف والعنف الرمزي والمادي، تتضاعف الحاجة إلى جعل المخيمات مدرسة حقيقية للمواطنة، حيث يُدرّب الأطفال والشباب على الممارسة اليومية للقيم، لا عبر الخطاب الوعظي فقط، بل من خلال أنشطة وتجارب عملية انتخابات داخلية لاختيار قادة الفرق، ورشات للحوار، أنشطة جماعية لحماية البيئة، ومحاكاة لمجالس الأطفال والشباب.
 
كما أن المخيم يشكل مجالاً لترسيخ قيم المساواة بين الجنسين، عبر إشراك الفتيات والفتيان في أدوار متساوية داخل الأنشطة، وتجاوز الصور النمطية التي كثيرًا ما تحد من طموحات الفتيات وهو أيضًا ورشة مفتوحة لتعزيز التربية البيئية في زمن التغير المناخي، من خلال ربط الناشئة بالطبيعة، وتدريبهم على ممارسات بسيطة لكنها مؤثرة إعادة التدوير، ترشيد استهلاك الماء والطاقة، تنظيف الفضاءات الطبيعية.

بهذا المعنى، يتحول المخيم إلى فضاء لبناء المواطن الصغير متوازن، منفتح، يحترم الآخر، ويدرك مسؤولياته تجاه المجتمع والبيئة إن الاستثمار في هذه القيم عبر التخييم  هو حاجز وقائي ضد مظاهر الانغلاق والتطرف، وضمانة لمجتمع أكثر تماسكًا وعدالة في المستقبل.
 
نحو سياسة وطنية جديدة للتخييم
 
إن ما يحتاجه قطاع التخييم اليوم ليس مبادرات موسمية متفرقة، بل خطة وطنية بعيدة المدى (2026–2036)، تُبنى على أسس واضحة، وتُترجم إلى أهداف قابلة للقياس، وآليات تمويل مستدام، ومؤشرات دقيقة لتقييم الأثر التربوي والاجتماعي فالتخييم ليس مجرد خدمة ظرفية للأطفال، بل هو استثمار في رأس المال البشري، يوازي في أهميته الاستثمار في التعليم أو الصحة.
 
من هنا، تبرز الحاجة إلى مناظرة وطنية جامعة، تتحول إلى محطة تأسيسية تعيد ترتيب أوراق القطاع مناظرة لا تقتصر على الفاعلين المؤسساتيين من وزارات وجماعات ترابية، بل تنفتح أيضًا على الجمعيات الوطنية والجهوية، الفاعلين الخواص، الجامعيين والخبراء، بل وحتى المنظمات الدولية ذات التجربة الرائدة في هذا المجال والأهم من ذلك، أن يكون للأطفال والشباب أنفسهم صوت مسموع في صياغة هذه الرؤية، باعتبارهم المستفيدين المباشرين وأصحاب المصلحة الأولى.
 
بهذا الشكل، يمكن للمناظرة الوطنية أن تتحول إلى ميثاق وطني للتخييم، يحدد بدقة الأدوار والمسؤوليات، يضمن العدالة المجالية في توزيع المخيمات، يرفع من جودة التأطير والمحتوى البيداغوجي، ويُخضع كل طرف للمساءلة عبر مؤشرات موضوعية والغاية النهائية هي أن يصبح المخيم حقًا تربويًا واجتماعيًا شاملاً، لا امتيازًا ظرفيًا، وأن يشكل رافعة حقيقية لبناء أجيال مواطنة، منفتحة، ومؤهلة لمواجهة تحديات المستقبل.
 
المخرجات المنتظرة
 
من بين النتائج العملية الممكنة للمناظرة
ميثاق وطني للتخييم يحدد المعايير والبنيات والبرامج
خطة عشرية بتمويل متعدد المصادر دولة، جماعات، قطاع خاص
مرصد وطني للمخيمات يتتبع المعطيات ويقيّم الأثر
برنامج وطني لتكوين المؤطرين يمنح شهادات معترف بها مشاريع تجريبية نموذجية في القرى والمدن لتعميم التجربة

 
صوت الشباب… شرط للمشروعية
 
لن يكون للمناظرة الوطنية حول التخييم قيمة حقيقية إذا غاب عنها صوت المستفيدين المباشرين، أي الأطفال واليافعين والشباب. فهُم ليسوا مجرد متلقين سلبيين للخدمات، بل فاعلون اجتماعيون قادرون على التعبير عن حاجاتهم وانتظاراتهم، واقتراح حلول عملية تُلامس واقعهم اليومي مشاركة هذه الفئة في صياغة التوصيات والبرامج تمنح أي سياسة وطنية للتخييم شرعية ومصداقية، لأنها تجعلها منسجمة مع تطلعات الأجيال الجديدة بدل أن تظل مجرد تصورات فوقية تُصاغ في المكاتب المغلقة.
 
إن إشراك الأطفال والشباب في الحوار الوطني حول التخييم لا يعني فقط الاستماع الرمزي لآرائهم، بل إدماجها فعليًا في آليات التقييم والتخطيط، من خلال استبيانات، ورشات تشاورية، ومحاكاة برلمانية شبابية داخل المناظرة بهذه الطريقة، تتحول السياسة الوطنية للتخييم إلى مشروع مشترك يكتسب قوة من القاعدة المجتمعية، ويعزز ثقة الأجيال الصاعدة في المؤسسات وفي جدوى المشاركة المواطنة.
 
خاتمة
 
الحاجة إلى مناظرة وطنية للتخييم لم تعد مجرد مطلب جمعوي أو نشاط موسمي، بل أصبحت ضرورة استراتيجية لا يمكن تأجيلها، لأنها تمس بناء الإنسان والمجتمع على حد سواء فالاستثمار في المخيمات الصيفية ليس رفاهية، بل رافعة للتنمية البشرية والتنشئة المواطنة، قادرة على تحصين الطفولة والشباب ضد عوامل الإقصاء والانعزال والتطرف.

إن هذه المناظرة تمثل فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار لقطاع التخييم، عبر وضع رؤية وطنية شاملة، تحدد أهدافًا بعيدة المدى، وتضمن تكامل كل الفاعلين الدولة، الجماعات الترابية، الجمعيات، الخبراء، والشركاء الدوليون، مع إشراك الأطفال والشباب أنفسهم كفئة مركزية في العملية.
 
بهذه الرؤية، يتحول المخيم من مجرد نشاط صيفي محدود التأثير، إلى ورشة وطنية للتربية والتنمية البشرية، تعزز قيم المواطنة، الاحترام المتبادل، المساواة، وحماية البيئة، وتؤسس لأجيال قادرة على التفاعل الإيجابي مع مجتمعها ومواجهة تحديات المستقبل بوعي وثقة.
 
إن الاستثمار في هذا المجال ليس خيارًا بل واجب وطني، وهو المدخل لضمان أن يكون كل طفل وشاب مغربي مستفيدًا من حقه الطبيعي في الترفيه والتعليم غير النظامي، وأن يشكل المخيم فضاءً حقيقيًا للفرص والمساواة والعدالة الاجتماعية.