Tuesday 23 September 2025
في الصميم

أريري: جذور نكبة المدينة المغربية!

أريري: جذور نكبة المدينة المغربية! عبد الرحيم أريري
قبل 1974 لم تكن للمغرب أية رؤية حول التعمير. لكن بعد الانقلابات العسكرية لعامي 1971 و1972، انتبهت الدولة إلى وجوب فتح هذا الورش، فخلقت المؤسسات الجهوية للبناء والتجهيز (ليراك) بعيد إحداث وزارة السكنى عام 1972، وثم فصل هذا القطاع عن وزارة الأشغال العمومية التي كانت وصية عليه منذ الاستقلال.
 
ميلاد (ليراك) جاء أيضا بدافع مواكبة المشروع الجهوي الجنيني (تقسيم 1971) لإنعاش السكن. وأطلقت الدولة يدها للمندوبيات التابعة لوزارة السكنى بتجزيء الأراضي دون تصفية الوعاء العقاري، ودون تمكين المواطنين من الرسوم بحكم أن الفوضى السائدة، آنذاك بالمغرب، لم تكن تجعل من الإنعاش حرفة ومسؤولية. ناهيك عن عدم تأهيل المندوبيات في حد ذاتها، مما أدى إلى معاناة المواطنين في العديد من التجزئات، بعضها (أي التجزئات) مازالت إلى حدود اليوم بدون تسوية رغم وفاة الجد والأب!
 
وبعد الانفجارات الحضرية بالبيضاء عام 1981، وانفجارات الناظور ومراكش عام 1984، قامت الدولة بإحداث «الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق»، خاصة وأن البنك الدولي ربط منح المساعدات للمغرب باعتماد برامج حضرية تنموية مرنة. وأمام الحاجة إلى الجواب على مشاكل الرباط ومكناس وتطوان والبيضاء والقنيطرة، آنذاك، استجاب المغرب وخلق هذه المؤسسة. والحصيلة أن هذه الأخيرة بدورها عرفت انزلاقات ولم تنجز عمليات متوازنة ومربحة، شأنها شأن أختها البكر «ليراك» والشركة الوطنية للتجهيز.
 
صحيح أن المغرب كان في عهد سنوات الرصاص يعرف الاختلال في كل مناحي الحياة، والأولوية كانت للجانب القمعي وليس التنموي، فضلا عن كون عمال العمالات كانوا هم المتحكمين في هذه المؤسسات التقنية التابعة للسكنى، وهو ما قاد في نهاية المطاف إلى إسناد التعمير صراحة إلى وزارة الداخلية عام 1985 (في عهد إدريس البصري)، بمبرر أن التعمير ملف شائك ومرتبط بضرورة السلطة ونزع الملكية وتحرير العقار والرخص والعمليات الكبرى (وثائق التعمير وتصاميم التهيئة،إلخ...)، بشكل جعل الأصوات تقر «بوجاهة» إسناد التعمير إلى وزارة الداخلية بدل بقائه في يد وزارة الإسكان. 
 
وبرزت في حمأة هذا التصور شركة «التشارك» عام 1989، الخاصة بترحيل كاريان بنمسيك بالبيضاء.
ومع مجيء حكومة اليوسفي في 1998، خرج التعمير من معطف إدريس البصري وأدخل تحت معطف اليازغي، حيث رغم التذرع بالسلطة وقوة وزارة الداخلية، فإن تجربة إلحاق التعمير بأم الوزارات من 1985 إلى 1998، لم تنتج حصادا مثمرا بل أفرزت مدنا مشوهة في كافة التراب الوطني ونهشا للمجال الترابي شرقا وغربا. فدخل المغرب في رؤية تقنية (حكومة مارس 1998) بجمع التعمير والسكنى والبيئة وإعداد التراب الوطني (محمداليازغي)، مع خلق كتابة الدولة في السكنى والبيئة (محمد لمباركي)، ومع ذلك لم تفلح التجربة. 
 
لما حكومة جطو عام 2002، تم فصل التعمير والإسكان، وإلحاقهما بالوزير الأول مع وزير منتدب مكلف بالقطاع، بدعوى أن السكن هو رديف للتعمير (توفيق حجيرة).
 
ومع ذلك لم تنعكس هذه الرؤية على المجال رغم إطلاق العديد من الأوراش الكبرى (أزور، المخطط المديري للأوطوروت، إلخ...) مما جعل السؤال الأزلي: «كيف يمكن عكس مجهود الدولة على المحلي؟» في خبر كان.
 
بعد تشكيل حكومة عباس الفاسي عام 2007، وبروز مخاطر انهيار المنظومة المالية والبنكية ككل بسبب إفلاس بنك «السياش» نتيجة عجز مؤسسات وزارة الإسكان عن سداد ديونها (حوالي 90 مليار سنتيم)، قامت الدولة بتجميع كل هذه المؤسسات وحولتها إلى شركات مجهولة الاسم، لخلق العمران. 

ويوم 31 يوليوز 2007 أصبحت «ليراك» فروعا لمجموعة العمران. وقدمت العمران للرأي العام كأحد الأذرع القوية لمصالحة المغاربة مع مجالهم. وكان أول اختبار للعمران هو برنامج «مدن بدون صفيح» المسطر منذ عام 2004، بعد الأحداث الإرهابية 16 ماي 2003، حيث أسندت اتفاقية 12 دجنبر 2007 ملف إيواء 92 ألف أسرة صفيحية بالبيضاء إلى شركة «إدماج» وإلى «العمران» التي أضحت بسبب ذلك في مرمى النار بسبب عطب الحكامة في مجموعة العمران. وهو العطب الذي أعادنا إلى سنوات 1974 و1984 بشكل قاد بين عامي 2009 و2010 إلى نقاش حول احتمال تجريد وزارة الإسكان من التعمير وإسناده صراحة إلى وزارة الداخلية آنذاك.
 
لكن بعد انتخابات 25 نونبر 2011 وفوز حزب العدالة والتنمية بأغلبية 107 مقعد، كلف الملك عبد الإله بنكيران بتشكيل حكومة ضمت في عضويتها لأول مرة أمين عام مكلف بوزارة الإسكان في شخص نبيل بنعبد الله، وهي الإشارة (أمين عام في قلب الإسكان)، التي فهمها الرأي العام من كون الدولة ستزيد في السرعة وسترفع الإيقاع لطي ملف الصفيح والدور الآيلة للسقوط بالبيضاء، علما أن العاصمة الاقتصادية تمثل النصف من المجموع العام للدور الآيلة للسقوط بالمغرب. لكن ما لوحظ هو العجز (عجز حكومة بنكيران ،في شخص وزارة الإسكان) عن بلورة خطة وسقف زمني للحسم في ملف الدور الآيلة للسقوط بالبيضاء، بل حتى الإجراءات المعلن عنها عقب التدخل الملكي في سنة 2012 (نتيجة وفاة مواطنين بالمدينة القديمة بسبب انهيار منازلهم في ماي 2012)، ثم إقبارها وردمتها الحكومة ردمة نهائية.
 
بعد فشل حكومة بنكيران - في شخص نبيل بنعبد الله والحركي إدريس مرون- في خلق دينامية بالقطاع، اعتقد المتتبعون أن تشكيل حكومة سعد الدين العثماني في 5 أبريل 2017 سيستحضر الانكماش المسجل عبر إسناد حقيبة التعمير والإسكان لشخصية من عيار ثقيل مهووسة بهاجس تجاوز الاختلالات وتحريك عجلة التنمية في القطاع ، لكن الصدمة كانت قوية، ولم يتم الإبقاء على نبيل بنعبد الله في قطاع الإسكان وسياسة المدينة فقط، بل وتمت إضافة حقيبتي التعمير وإعداد التراب الوطني، له مكافأة من الأصوليين للشيوعيين على «وقفتهم الأخوية» إبان مرحلة «البلوكاج الحكومي».
 
رغم هذه الهندسة المؤسساتية لم يحدث التململ في ملف التعمير والإسكان.
وفي سنة 2018، عقب زلزال حراك الحسيمة، الذي أطاح بعدة مسؤولين منهم نبيل بنعبدالله، تم تكليف عبد الأحد الفاسي الفهري في يناير 2018 بحقيبة التعمير والسكنى وسياسة المدينة. هذا الأخير لم يترك بصمة في القطاع لكونه لم يعمر سوى 18 شهرا بالكاد، معظمها تميزت بتوتر مع المهنيين في القطاع، وعلى رأسهم هيأة المهندسين المعماريين.
 
في أكتوبر 2019، تم تعيين نزهة بوشارب على رأس القطاع، وبحكم ان تعيينها تم في «الدقيقة 90» من عمر الولاية الحكومية لكون الانتخابات كانت على الأبواب، تم اعتباره نزهة بوشارب كوزيرة «تصريف الشؤون اليومية» لقطاع التعمير والإسكان، أكثر منها وزيرة حاملة للتصورات والبرامج القابلة للتنزيل في باب الإسكان والتعمير والمدينة.
 
عقب الإطاحة بالأصوليين ومجيئ رجال الأعمال والمال في انتخابات 2021، عرفت حكومة أخنوش تعيين القيادية فاطمة الزهراء المنصوري (البام) في أكتوبر 2021 وزيرة لإعداد التراب والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، إلا أن الحصيلة كانت جد باهتة ولم ترق إلى مستوى الانتظارات، بدليل تلكؤ برامج إعادة الإيواء في أكثر من مدينة (وعلى رأسها البيضاء)، وفشل تنزيل سياسة واضحة دامجة ومندمجة في المدينة المغربية.