الحملة على العنف ضد النساء دخلت مرحلة الإعلان والإعلام من الأبواب العريضة: أمام الملأ تنظَّم التظاهرات والندوات والمؤتمرات والدراسات و"السبوتات" والإبتكارات المنسوخة. وتصل أنشطة الحملة ذروتها، كلما تعرضت زوجة لضرب أو لقتل على يد زوجها، فتتصدر المحاميات الشاشة، والناشطات معهن، تتبرعن إعلامياً وحقوقياً، تعرضن مأساة العائلة المصابة، تشدّن أزرها، ثم تخطبن في العنف ضد النساء.
كأن العنف ضد النساء لا يمارس إلا بين الزوج والزوجة، وكأن الضرب المبرح أو القتل هما العنف الوحيد الممارس ضد النساء؛ أو كأنه ليس هناك عنف يمارس ضد الرجال، من قبل الرجال، ومن قبل النساء؛ وكأن الجريمة التي يرتكبها كل زوج بحق زوجته أو عشيقته هي جريمة "جندرية"، أي جريمة يرتكبها رجل بحق امرأة، وليست، ببساطة، جريمة عاطفية أو "مالية"... كما لو لم يكن هناك استعداد صريح عند النساء لتبنّي العنف ضد نساء أخريات، ضد رجال آخرين... كما هو شائع الآن بين جماهير الطوائف؛ أو في نهاية المطاف، قبل بدايته، كما لو لم يكن هناك شيء اسمه الوقاية من العنف ضد النساء، التي لا يمكنها أن تكون إلا وقاية من العنف ضد الرجال، في آن.
ولكن المسألة أكثر جدية من تلك الاعتراضات "الثانوية". فالأهم من تلك الهوجة الإعلامية، التي لا تعيد حقاً ولا تقلّص عنفا، بل ربما تزيده، هو ذاك النقص الفادح لدى الجمعية المناضلة من أجل حماية المرأة من العنف، في التفكير والتمحيص في العنف نفسه. اكتفت بمختصرات جمعيات نسائية أجنبية، فوضعت أجندتها على أساسها، وراحت تصرخ بالعنف كمن يؤذن بقدوم الذئب إلى الحقل. وربما هي على حق الآن، إذ أن الفكر المتسرّع المسطّح أخذ طريقه إلى عقولنا، وهو قادر على التعايش مع تعقّد أوضاعنا وفوضويتها.
ولكن مهلا: تاريخيا، عندما كان الرجال والنساء يقيمون ضمن توازن واضح يولي الرجال القيادة، والنساء الالتحاق، هل كان هذا الشكل من العنف سائدا بينهم؟ هل كان الرجال يضربون زوجاتهم، يقتلوهن، يشردوهن؟ لا نملك وصفاً دقيقاً لهذه الظاهرة تاريخياً. فقط ما يمكننا حفظه هو جرائم "الشرف"، التي لا تغطي العلاقة بين الزوج والزوجة، بين المرأة والرجل، إنما تقوم على عنف العائلة والأهل. لذلك لا يمكننا أن نعرف بالضبط إذا كان العنف ضد النساء الآن قد زاد عن مرحلة التوازن السابق بين الجنسين، أو ارتدى أشكالا أخرى، أو انخفض.
ولكن المؤكد حتى الآن أن العنف "الجندري" ضد النساء تجده في أكثر الدول تقدما في ما يخص حقوق النساء. دولٌ ترأسها نساء؛ ولكن النساء فيها يُضربن أيضاً، يُغتصبن ويُقتلن بأبشع الطرق والظروف. ودرجة العنف ضد النساء هناك ليست أقل من تلك التي تتعرض لها اللبنانيات. هذا المشترك بين نساء العالم كله، المتخلف منه والمتقدم، يغري بالربط بينه وبين صعود النساء؛ بمعنى أنه، أي العنف، يتزايد حيث يشعر الرجال بتهديد هذا الصعود لامتيازاتهم الألفية. ولنا فوق ذلك عوامل "محلية" تضاعف من درجات هذا العنف: فنحن شعوب ممزقة مفكّكة، عائلات مبعثرة، ومجتمعاتنا تضرب فيها الفوضى العارمة، في ترحال متواصل، وفي حالة من العنف اليومي غير المتقطع. هذا العنف ينال من الرجال بقدر ما ينال من النساء؛ هذا العنف المعمَّم، المغذي للعنف ضد النساء، ماذا نسميه؟ عنف ضد الرجال؟ ضد النساء؟ أم ضد الاثنين معاً؟
والأهم من كل ذلك أن هذه الطريقة بتناول العنف الزوجي يلغي التفكير بأبعاده العاطفية النفسية: فبما أنه يحصل بين زوج وزوجة، أي بين من سبق أن كان الحب ثالثهما، فتحول إلى كراهية ثم جريمة، يكون السؤال الأجدر هو: ما الذي يحول الحب إلى كراهية؟ ما الذي يجعل من الحب بذرة إجرام؟
أما القوانين التي تريدنا فواصل إعلانية أن نعيها على يد "الست زلفا" كل ليلة بعد نشرة الأخبار، فهل يجهل القائمون على صناعتها طبيعة القانون السياسي والاجتماعي الحاكم للبلاد، قبل أن يبشّروننا بأن ما علينا إلا التوجه نحو رجالاته لنأخذ حقنا؟ هل يجهلون بأن لا سلطات فيها أصلا؟ لا رئاسية ولا تشريعية ولا قضائية؟ أم أنهم على درجة من البراءة؟
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)