الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الشهاوي: عبادةٌ لا عبودية

أحمد الشهاوي: عبادةٌ لا عبودية

كُلُّ صراعٍ دينىٍّ ينشأ بين العناصرِ الفسيفسائيةِ المُكونةِ للمجتمعِ أو طوائفِهِ أو تياراتِهِ أو جماعاتِهِ أو فِرقِهِ- ينحَرُ فى ساحلِ بحرِ الأمةِ، بل يُمزِّقُ جسدَها، ويُفتِّتُ أرضَها، ويسحقُ جبالهَا حتَّى لو كانت شامخةً فى العُلو والرُسُوخِ، خُصُوصًا مع ازديادِ وتيرةِ تكفيرِ المُجتمعِ والناسِ، وتناميها يومًا تلو آخر، حيثُ لم تكنْ كذلك فى حقبِ الستينياتِ والسبعينياتِ والثمانينياتِ والتسعينياتِ من القرنِ العشرينِ، القرن الذى شهدَ فى أواخرِهِ صراعًا وصدامًا مُصطَنعًا، قادته الدولُ الاستعماريةُ الكُبرى بين الحضاراتِ، كان الإسلامُ والمسلمون هدفًا لرماحِ هذا الصراع، الذى طهته القُوى الكُبرى على نارٍ هادئةٍ لسنواتٍ حتى استوىَ.

بل ارتفعتْ موجاتُ التكفيرِ، فى ظلِّ النزاعِ السياسىِّ الذى صار يمشى- للأسف- بأرجلِ الدِّينِ، كما أنَّ «علماء الدين» الرسميين وغير الرسميين، وهم جميعهم عندى فى زماننا هذا من فقهاءِ السُّلطان، يُغذُّون هذا الصراعَ، وينتصرونَ لتيارٍ على حساب آخر، مُتناسين المجتمعَ، مُسقطين صحيحَ الدين من حساباتهم؛ إذْ المُهم لديهم تضخُم حساباتهم الماليةِ والسياسيةِ، وسطوعُ نجمهم فى المجتمعِ، باعتبارهم حُماة ودُعاة ورُعاةَ الدين وأكلةَ غلته.

فالناس يُعانون من تشويهٍ وتشويشٍ، والتباس ٍ، وخلطٍ للمفاهيم، وتسطيحٍ للدين، وسوء فهمٍ للقرآنِ والسُّنة، حيثُ رأوْا أنَّ الذين يلبسون مسوحَ الدين يتجرأُونَ عليه، ويُغالطُون، ويُفتُون فيما لا يفقهُون، ولا يعلمُون، ولا يدركُون قلبَ الأشياءِ، ويتكسَّبُون من دينهم لحساب دُنياهم، ويُؤوِّلُون ما لا يُؤوَّل، ويلوون عنقَ الثوابتِ، وصار حديثهُم يحملُ من المسبَّات والشتائمِ أكثر مما يحملُ من الوعظِ والنصيحةِ والإرشادِ والتعريفِ بأصولِ الدينِ، وثوابتِ العقيدةِ، إذْ تعاملوا مع المُقدَّسِ الإسلاميِّ بمنطقِ تاجرِ التجزئةِ، وعلى أنهُ مُعطًى يوميٌّ عاديٌّ، نزعوا عنه جلالَه وقداستَه.

فرأينا من يختزلُ الإسلامَ فى الإخوان، وثانيًا فى السلفيين، وثالثا يتأرجحُ بين الاثنينِ، ورابعا وألفا يرى أنَّ الإسلامَ فى جماعتِه الدينيةِ فقط، وأنَّ من يعتنقُ أو يعتقدُ على غير هواه ومذهبه ومُعتقده، فهو ابنٌ بارٌ للجحيمِ، والنارُ أولى به، وينبغى قتاله ومُحاربته.

بينما الإنسانُ فى حقيقتِه وجوهرِه يُحب أنْ يعيشَ فى هُدوءٍ وطمأنينةٍ وسلامٍ، يُؤدِّى فُروضَهُ وواجباته نحو نفسِه أولا، ثم نحو ما يعتقدُ ثانيا، دون وسيطٍ دنيوىٍّ آخر، إذْ خلق الله للبشر قلوبًا وأرواحًا، ليعرفوا الحقَّ من الباطلِ، والعدلَ من الظُلمِ، والحقيقةَ من الكذبِ.

والإنسانُ ككائنٍ يستحثُّ نفسه طَوالَ الوقتِ على أن يعيشَ فى حالةِ بناءٍ لذاته، دون تكديرٍ أو تهديدٍ أو رفع سيفٍ على رقبتِه، يأمر من رفعه بأن يفعلَ كذا أو لا يفعلَ كذا، شاهرًا سلاحَ الأمرِ والنهى، وهو سلاحٌ أمضى وأحَدُّ من أىّ أسلحةٍ أخرى، لأنه يفتكُ بالرُّوح، ويُذِلُّ النفسَ، ويكسِرُها، بل يُشظِّيها.

ولقد خُلِقَ الإنسانُ ليشقى، ويسعى، ويتطورَ، ويحلمَ، ويتحقَّقَ، ومن ثم هو دائمًا فى صراعٍ شخصىّ مع ذاته، كى يخلقَ نظامه النفسى ككائنٍ اجتماعى، يرتِّبُ كونَهُ الخاصَ فى لغتِه ودلالاتِها ورمُوزِها وأفكارِها، ويكرهُ أن يكونَ واقعًا تحت سلطة مُرشدٍ لا يرى أى شىءٍ صحيحًا إلا إذا كان صادرًا بأمرٍ منه، ولا أحد ينسى ما قاله أبوالحسن الندوى، عقب لقائه حسن البنا فى القاهرة: «إذا عطس المرشدُ فى القاهرة، قال رئيسُ شعبة الإخوان فى أسوان يرحمكم الله»، فى دلالةٍ على أن المرشدَ هو «ربُّ» الجماعة، و«إلهُها»، ولا شىءَ يُمكنُ أن يتقدَّمَ فى جماعة الإخوان المسلمين دون أن تلمسه يداه المُباركتان المُقدَّستان، «لا ينفعُ فى بناء الدعوة إلا ما بنيتُ بنفسى»، حيثُ لا شُورى، ولا حرية فى هذه الجماعة التى تُسقطُ بأمرِ مُرشدها وقياداتها ما أقرَّهُ الدين «وأمرُهم شورى بينهُم»، «وشاورهم فى الأمرِ»، فكان النبى محمد يستشيرُ أصحابَه رغم عصمته، والشورى مبدأ سنَّهُ الإسلام بين الحاكم والمحكُوم، لكنَّ الإخوانَ أسقطوه بحكم ديكتاتورية بناءِ تنظيمهم، وتسلُّط قياداته وسريتهم، ولذا نرى أن جماعةَ الإخوان مُستبدةٌ، ظالمةٌ، رافضةٌ النصيحة، كأنها تجهلُ أنَّ «الدين النصيحة»، فيها من العُبُوديةِ أكثر ما فيها من العبادة.

والإنسانُ بطبعه فردىٌّ، حتى لو انتمى إلى جماعةٍ أو وطنٍ، إذْ سيظلُّ له حلمهُ الخاص، وأسلوبهُ، وصوتهُ، وبصمتهُ، وطريقتهُ فى التفكيرِ مُغايرةٌ ومُختلفةٌ.

والفردُ العاقلُ حينما يتهدَّدُ، يخرجُ إلى الطريقِ تاركًا الطريقةَ، أو يُفارقُ من يُرافقُ، أو يهجُرُ من يُحبُّ، أو ينجو من السفينةِ قبل غرقها، أى أنَّهُ يُنتِجُ حالتَهُ التى يراها أعمقَ وأكثرَ تجذيرًا لوضعِهِ، كيْلا يواجهَ فوضى أو شيئًا غير ذى معنى، لذلك يبقى المُقدَّسُ (الدينِ والحبِّ) أساسيين فى أىّ نظامٍ اجتماعىّ، إذْ بدونهما لن تشبعَ الرُّوحُ، ولن يحتفلَ الجسدُ الروحانىّ بإشراقاتهِ وتجلياته، التى تخلقُ له نصرَهُ الخاصَ، أو أملَهُ المُنتصرَ فى الحياةِ، ولهذا خُلقَ الإنسانُ مُختلفًا عن بقيةِ الكائناتِ، وإنْ كان فى أحايين كثيرةٍ يأخذُ سماتِ وطبائعَ الحيواناتِ، وهذا استثناءٌ، لا يُمكنُ البناءُ عليهِ، أو الاستدلالُ بهِ.

ومهما يكُن سيظلُّ الدينُ والحبُّ يتحكَّمان فى الإنسانِ ويَحكُمانه، ويُسيِّرانه، ويطيران به نحو فضائِه الأرحب. فوظيفة الدين هى أن تُحبَّ، وكذا وظيفة الحُب هى أن تبقى مُحبًّا ومحبُوبًا، وإذا هجرتَ دينًا أو حُبًّا، فلذلك أصولٌ تُنظِّمُها الغريزةُ والرُّوحُ، وكلاهما يُرسِى «منطقةً محميةً»، تقى الرُّوحَ من الشَّر والخرابِ، وتُنزهُها عن فعلِ ما لا ترضاهُ النفسُ المُطمئنةُ أو القلقةُ، على حدٍّ سواء.

وفى تاريخِ النجاةِ من المهالكِ على مدارِ الزمنِ، لا ينجُو إلا المُوحدون فى الدينِ والحُبِّ، دُونَ تسلُّطٍ، أو خديعةٍ، أو استبدادٍ، أوخضوعٍ، أو عبوديةٍ، أو تبعيةٍ، لأنَّ القلبَ يخلُقُ قواعدَ السُّلوكِ، فى حين أنَّ القلبَ التابعَ لا يقُودُ، ولا يرى، كما أنهُ صدِئٌ، لا يُفكِّرُ.

ومثلى لا يُحبذُ الطَّاعةَ فى الحُبِّ، ولا فى جماعةٍ دينيةٍ، إذْ عادةً ما يتمُ استخدامُ السَّمعِ والطَّاعةِ والإمرةِ سبيلا إلى الهيمنةِ والاحتكارِ، ومن ثم يحدثُ التفكُّكُ، والانفراطُ، والخروجُ على الشُّرُوطِ، حتَّى لو كانت شُرُوطًا غيرَ مرئيةٍ.

(عن "المصري اليوم")