السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري : الإيمان والقدر؟ كلا، الفساد والبشر!

عبد الحميد جماهري : الإيمان والقدر؟ كلا، الفساد والبشر!

نحتاج أحيانا إلى قسوة من القدَر كي نقيس القدْر الذي وصل إليه الفساد في بلادنا. ووسط السيول الجارفة للمطر، نبحث عن رسائل «من تحت هذا الماء» عن الدرجة التي وصلت إليها البلاد في .. سباحة الفساد.

ولعل من مكر الصدفة أن تنطلق كل هذه الأهوال، والعالم مجتمع عندنا يستمع في منتدى مراكش إلى ما يقوله المسؤولون المغاربة عن الفساد في البلاد وبين العباد.

تشاء الكارثة والتوقيت الصعب أن يجتمع فوق أرض المغرب، من يموت من الفساد ومن يتحدث عنه، بلغة نقول بأعلى الصوت إنها غير فاسدة أبدا.

فقد كشف السيد بودرار والمخاطبون الدوليون والوطنيون في الندوة المنظمة عن الفساد، أن «تكلفته، حسب البنك الدولي، في المغرب تصل تقريبا إلى 39 مليون دولار، وهي نسبة كبيرة من الدخل الإجمالي، ما يعادل 60 بالمائة من ميزانية التعليم، أو ما يمثل 155ألف مسكن شعبي». وقال شريكه في النقاش إن «القضاء على الفساد والرشوة يخدم التنمية في هذا البلد»، والحقيقة الواضحة أن الفساد ليس فقط عملية ذهنية يمكنها أن تتم بين رجل سلطة أو رجل سياسة فاسد وبين البنك أو الشركة صاحبة الصفقة، بل هو عملية قتل منظمة، تشتغل في الواقع مثلما يشتغل السرطان: بتؤدة وبقدر حتمي، وتهيئ المغاربة للموت المحقق مع أول زخات مطرية أو مع أول درجة حرارة.

نتائج البحث الذي قامت به الهيئة المسؤولة عن الوقاية (وليس محاربة) الفساد والرشوة الذي أجري سنة 2014، والذي شمل خمسة آلاف عائلة غطت كل التراب الوطني، بينت أن الرشوة والفساد يحتلان الرتبة الخامسة من بين مشاغل المواطن المغربي بعد البطالة والسكن، ولم تبين أية دراسة، للأسف، الرتبة التي يحتلها الفساد في قتل المغاربة ومن حيث ترتيب الضحايا، سواء عندما يتعلق الأمر بالرشوة في الطرق وفي حربها المستعرة صيفا وشتاء، أو عندما يتعلق الأمر بالمباني أو عندما يتعلق الأمر بالوفيات غير الإنسانية في المستشفيات أو عندما يكون الفساد وراء القتلى في.. المصحات العقلية غير الطبية بالمرة!!

لا يمكن أن نتهم المغاربة بأنهم غير شاعرين بتعقد الظاهرة، ولا بعدم الوعي بخطورتها وترتيبها، فقد بينت الدراسة المذكورة أعلاه، أن «45 بالمائة من الأسر المغربية ترى أن الفساد قد ارتفع، وهناك 9 بالمائة فقط يعتقدون أن الوضعية لم تتغير و17 بالمائة يرون أنه قد تقلص. وبالنسبة للمستقبل فإن 22 بالمائة من المواطنين لا يرون أن الفساد سيرتفع، و31 بالمائة يرون أنه سينخفض».

ولا يمكن أن تكون الدولة، بكل أجهزتها خارج المناخ النفسي والسياسي الذي يستشعره المغاربة، لكنها تملك الوسائل الردعية التي تعطيها أحقية العنف المشروع ضد الفاسدين.

فخلف كل قنطرة منهارة، هناك جزء من الوطنية منهار، وجزء من القيم منهار وجزء من الهيبة الحقيقية للدولة والقضاء والديموقراطية منهار.

ولا يمكن للدولة أن تجلس في خيام العزاء كأي كائن بسيط، بل عليها أن تعزي بطريقتها، بعيدا عن تلك الجبرية التي تجعل من الضحايا دليل إثبات على قوة الطبيعة أو حتمية القدر. لا نريد من الآن فصاعدا لوائح الموتى، نريد بدل ذلك لوائح المتهمين والمتابعين من الذين يسمح لهم ضميرهم الفاسد بأكل أبناء وطنهم في... بنوكهم...

لقد تبين أحيانا أن الصراع بين موزعي الكعكة يصل الى أطوار غير مسبوقة، ويسقط الرؤوس ويسقط المراكز التي لا نعرفها حتى، ولا يمكن أن يكون العدد الهائل من الخسائر، المادية والمعنوية والبشرية، بدون عقاب.

الفساد لا تردعه الأدعية ولا الرقى المدنية (تحاليل البأس والقدرية الجبانة)، بل الذي يردعه هو العقاب وتحديد المسؤوليات وترتيب العقوبات التي لا بد منها ، ولا أحد يجب أن ينجو من ذلك، نقول لا أحد، لأن الكثيرين يريدون أن يردع ««توازن الخوف» عن فضح المسكوت عنه. 
من كان يتوقع أن تعود إلى قواميسها الإعلامية واليومية عبارات من قبيل العزلة (في الوقت الذي تصل فيه طائراتنا إلى أعماق إفريقيا) وغرق دواوير بكاملها، في الوقت الذي وصلت التجربة الأعمارية المغربية إلى أعماق آسيا، ولا طرق تقطع، عندما يكون المغرب قد راكم مسافة طويلة في الطرقات. هناك نفاق غير مسؤول بتاتا، يريد من المغاربة أن يقبعوا في المنطقة المبهمة بين القدر.. وخطأ البشر! منطقة تخضع لسوء النية أكثر مما تخضع للإيمان..

فالإيمان أوله محاربة الفساد في الصفقات وفي الاشغال وفي المهام وفي النيات.. ولا إيمان بالقدر في تفسير فساد البشر!