السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: جهاديون محليون ودوليون

دلال البزري: جهاديون محليون ودوليون

كلما اكتشف الأوروبيون اسما لجهادي أتى من ربوعهم، انكبّوا على دراسة "حالته"، سعياً لفهم الدوافع التي رمته في أحضان "داعش". فيروحوا يبحثون عن أصولهم ونشأتهم وديانتهم وطبقتهم وسوابقهم إلخ. وقد خلصوا، بتمحيصاتهم السوسيو-نفسية، إلى رسم "بروفايل" غير كلاسيكي لشخصياتهم: إنهم من الطبقة الوسطى، من ديانات مختلفة، مسلمين ومسيحيين وحتى يهود؛ نشأوا في عائلات مستقرة وغير مستقرة، نسبة لا بأس بها من بينهم كانت واعدة في دراستها أو مهنتها. قليلون منهم دخلوا السجن لجنح، ونادرون من بينهم مضطربون نفسياً. المسجد لم يكن بؤرة تنظيمهم أو تجنيدهم؛ كلهم كانت الشبكة الإلكترونية واسطتهم إلى التنظيم الجهادي. وبسبب شدة التنوع بين "بروفايلاتهم"، بطًل السبب التقليدي القائل بـ "فشل اندماج" هؤلاء الشباب في أنظمة بلدانهم.

البوليس والقانون سوف يردعان تدفقهم، بالإجراءات الأمنية التي ينفذها، أو بسن القوانين الجديدة التي تحمي بلدانهم من عودة أولئك الجهاديين، فيزرعون في بلدانهم ما سبقهم إليه "العائدون من أفغانستان". ولكن عليهم البحث عن "الأسباب"، لأن الأمن لا يحل المسألة، بل ربما يؤجّجها. فوجدوا قليلها في توقهم إلى "جمالية الرعب"، أو إلى المطلق، أو إلى هوية فردية أرفع، أسمى من الهوية الوطنية الفرنسية أو البريطانية أو الإسبانية... بل ذهب أحدهم إلى حد القول بأن "التشابه التوبوغرافي بين حلب وبين مدننا الأوروبية الكبرى"، هو "السبب"... (جيل كرشوف، نائب أوروبي).

على الجانب الآخر، هنا تحديداً، لا نعرف الكثير عن الجهاديين "المحليين". العرب من بينهم في غالبيتهم من التونسيين، أي من تلك الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في امتحان الفوضى والإرهاب. وما تبقى كتلة بشرية هلامية، كل الاهتمام منصب على معرفة "أسباب" انخراطها في المشروع الإسلامي الإرهابي: كتلة عمادها شرائح مهمشة مذهبيا، لم تعرف إلا الاستبداد الدموي، تحمل تفسيراً ظلاميا عن الإسلام، ومنكشفة أمنياً، ولا ينافسها أي بديل آخر، قادمة من "فشل" اقتصادي وسياسي وتربوي إلخ. أي كل شيء ولا شيء... فكانت سيادة "الأسباب" على تلك الكتلة غامضة المعالم.

مقارنة بسيطة بين مضامين معرفتنا للجهاديين الغربيين و"المحليين" تفضي إلى ما يلي:

أولا، دراسة الجهاديين الدوليين تدور حول وقائع ملموسة، مبنية على رصد وتحقيق واستقصاء ميداني، يليها التساؤل عن "الأسباب"، غير المقنعة، التي لم يُتفق عليها. ما دفع أحد العلماء لاستنكار كل هذا التدقيق بالقول "هل وجب علينا أن نبحث باستمرار عن أسباب سوسيولوجية لذهاب هؤلاء الشباب إلى الجهاد؟". أما تناولنا للجهاديين المحليين، فغارق في أسباب عامة، معروفة وبديهية، أو ربما غير بديهية، لا تفارق الأطر التحليلية المعروفة، ولا شهوة الانقضاض على الأسباب دون غيرها من مقاربات؛ وبذلك لا نُخبر بشيء ذا قيمة عن الأنفار المحليين المنضوين في القتال الجهادي.

ثانياً، دخلنا عصر الجهادية المعولمة: الإنترنت صار وسيلة التواصل والخطابة والتجييش والتحريض، والتصوير والإخراج، ودورات التعلم العسكري والديني، وباللغات الحية الأساسية، وبذلك أصبح جذابا لكل شباب الأرض. ومجيء هؤلاء الجهاديين الدوليين إلى أرض الشام سوف يخلق مجتمعا كوزموبوليتياً، مكوناً من عرب وأجانب من العالمين الأول والثالث، بيئة جديدة علينا، لا نعرف ماذا ستفرز بعد استيطانها، أو بعد نهاية الحرب.

ثالثا، في كل هذه المسألة، الدين قليل، والتدين كثير؛ خصوصاً لدى الجهاديين الدوليين، الذين تعلموه عبر الإنترنت في بضعة أسابيع، وأطلقوا لحاهم، وغيروا أسماءهم، وردّدوا "البسملة" و"التكبير"... فصاروا بذلك مسلمين على ما يتصورون. ولا نستطيع أن نعرف تماما دين المجاهدين المحليين؛ لكن كل الإشارات تدل على تدين مقترن بعصبية مذهبية عمياء، وباستلهام كل الأوجه غير الحضارية للإسلام.  

رابعاً، في المقارنة مفارقة: الجهاديون الدوليون هاجروا بلدانهم ذات الأنظمة الديمقراطية والثقافة النقدية الإنسانوية. فيما "سبب" من "أسباب" الجهادية العربية هو غياب الديمقراطية والخيارات الأخرى؛ أي إن كلا النظامين، الاستبدادي والديمقراطي، يمكن أن يفرز طلاباً للجهاد. هل يعني ذلك بأن الحيثية الديمقراطية ضعيفة؟ أو ناقصة؟ أم أن علينا، قبل استلهام "الأسباب"، طرقْ الأبواب الأصعب والنبش في الدواخل العميقة لكل جهادي؟ في نشأته، عمله، قريته، بيئته، حكايته...؟ ونحصل ربما بعد ذلك على وصف للديناميكية التي فتحت لهم أبواب البربرية على مصراعيها؟

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)