ما هو المقياس العالمي للحداثة اليوم؟ إنه واحد من الأسئلة الحضارية الكبرى، التي أصبحت تطرح حول سياسات الدول والحكومات في أول القرن 21، التي ثمة إجماع على أن مقياس الحداثة مرتبط بمدى التأثير في جوهر الوجود البشري تنمويا. أي مدى منح الفرد إمكانيات الولوج إلى أسباب الحماية عبر تسليحه بسندين هائلين وحاسمين، هما سلاسة الولوج إلى امتلاك أسباب ترويض التكنولوجيات الحديثة، ثم ثانيا، رزنامة من الحقوق، التي في أولها الحقوق الاقتصادية والحقوق الثقافية والحق في التنمية المستدامة والحق في الأمن والاستقرار، التي حين تجمل كلها تصبح العنوان الأبرز للحقوق السياسية التقليدية من حرية التعبير والمعتقد والرأي والتنقل.
تأسيسا، على هذه الثقافة الكونية الجديدة للحداثة، يحق جديا، وبدون أي نزوع للغرور أو النرجسية، للمغرب والمغاربة، كجزء مركزي من المنظومة المغاربية، أن يفرح ببعض منجزه الذي راكمه خلال شهر نونبر الأخير، الذي لعل عناوينه البارزة، احتضان ثاني أقدم عواصمه السياسية الإمبراطورية الكبرى، مراكش، لحدثين دوليين من العيار الرفيع، المؤثرين عالميا والوازنين، هما القمة العالمية الخامسة لريادة الأعمال والمنتدى العالمي لحقوق الإنسان. لقد جعل هذان اللقاءان الدوليان سماء البلاد وجهة لأكثر من 9 آلاف مشارك، من أكثر من 100 بلد من القارات الخمس. وهذا حجم نوعي لا يتجاوزه سوى الاجتماع السنوي لهيئة الأمم المتحدة بنيويورك وجنيف. بل إن الأهم في ملتقيات مماثلة، كامن ليس في كم المشاركة ونوعيتها ومستواها الرفيع، بل في موضوعاتها وفي مستوى ما تفرزه من قرارات ونتائج، تبعا لأنها ورشات عمل جدية وليست لقاءات مجاملة من نوع تلك اللقاءات الدولية لبعض الماركوتينغ السياسي.
إن أهم مكسب ربحه المغرب والمغاربة، وبالاستتباع المغاربيون (رغم كل أسباب العطب المحبطة للتكامل المغاربي رسميا)، لأن كل نجاح للمغرب هو ربح للجزائر وتونس وموريتانيا وليبيا، أن المغرب أصبح مجالا لإبداع الحلول إفريقيا. وأنه بدلا من أن يلعن الظلام، يوقد شموعا للأمل في ابتكار حلول فاعلة ملموسة لتحديات المستقبل أمام شبيبة قارتنا السوداء. وأنه بدلا من السكن في الشعارات والخطابة، يحقق في صمت، آليات حلول، في بعديها التنموي والحقوقي. ليقدم بذلك المثال على أن القرن 21 (قرن إفريقيا تنمويا في العالم) هو فرصة لتتحقق مصالحة قارتنا السوداء مع العالم ومع التقدم، بمنطق الشراكة والتكامل والتعاون، وأنه إذا ما أضعنا هذه اللحظة التاريخية، سنكرر ذات أخطاء الأجيال السابقة للنخب الإفريقية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، التي أفضت إلى دول استبداد ومجاعات وعمليات إبادة وتخلف على كافة مجالات الحياة العمومية. والتي نبه إليها باكرا كتاب أطروحة مهم للباحث الاقتصادي الفرنسي ريمون ديمون الذي هو بعنوان "انطلاقة خاطئة لإفريقيا"، كان قد نبهني إليه مشكورا المفكر الاقتصادي المغربي الدكتور فتح الله ولعلو.
علينا، الانتباه هنا، أن رسالة القمة العالمية لريادة الأعمال الأمريكية المغربية المنعقدة لأول مرة بإفريقيا، كامنة في اشتغالها على رهانين آنيين حاسمين، هما الرهان على التكنولوجيا كفلسفة حياة وأيضا على دور المرأة في التنمية. بالتالي، فنحن هنا أمام خيار منتصر للمستقبل، وفي عمق العمق، منتصر فعليا للحداثة. لأن التكامل بين دور المرأة كفاعل حاسم في أي مشروع للتنمية بإفريقيا وبين الحق في امتلاك أسباب الولوج إلى امتلاك التكنولوجيا بمعناها كوسيط لتيسير أسباب خلق الثروة للأفراد والجماعات، هو وصفة عملية مفروض أن تدشن لمصالحة التطور التكنولوجي المتجدد كما يتبلور في الغرب الأمريكي (خاصة بولايتي كاليفورنيا وواشنطن بعاصمتيهما لوس أنجلس وسياتل) مع إفريقيا الجديدة القادمة الناهضة. بعد أن ظل الأمر محصورا أمريكيا على ربط الجسور تكامليا لأكثر من 30 سنة مع تنينات آسيا والمنطقة الهندو صينية. وليس اعتباطا أن أعلن نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن من بين سعف نخيل مراكش العالي، أن المغرب بوابة إفريقية لترجمة ذلك، من خلال برامج تكوينية تكنولوجية ملموسة بميزانية مفتوحة تتجاوز المليار دولار.
مثلما أن استضافة 5 آلاف مشارك من مختلف قارات العالم ضمن المنتدى العالمي لحقوق الإنسان في دورته الثانية بعد القمة الأولى منذ سنة بالبرازيل، ليست الغاية منه بالضرورة التبجح بامتلاك صك اعتراف عالمي حقوقي ضمن ما تفرضه منظومة العلاقات الدولية منذ سقوط جدار برلين (حتى وهذا حق مشروع سياسيا)، بل إن الغاية منه ربح الرهان مغربيا ومغاربيا وإفريقيا، أن منظومة حقوق الإنسان منظومة حاسمة لا رجعة فيها ضمن أي مشروع للتنمية ولربح المستقبل. أي أنها مغربيا رهان إستراتيجي، وهنا مكمن قوة الملف المغربي في أروقة مجلس الأمن ضد من يحاولون اللعب على بعض التناقضات المصلحية دوليا لتلهية المغرب ضمن مشروعه الوطني لاستكمال وحدته الترابية بصحرائه الغربية الجنوبية. لأن الحقائق هنا تبز الجميع، فالمغرب هو البلد المغاربي الوحيد الذي منظومة حقوق الإنسان فيه قد قطعت أشواطا ملموسة بمقاييس عالمية. أليس أنه قد حول مجلسه الوطني لحقوق الإنسان من مؤسسة استشارية إلى مؤسسة دستورية وأن لها فروعا تشتغل باستقلالية مجربة في مختلف مناطق المغرب، وأنه أصبح يصدر تقارير سنوية وتقارير قطاعية حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب ذات مصداقية وجدية وأنها مرجع يؤخذ بها أمميا؟. أليس أنها مؤسسة مستقلة لعبت دورا حاسما في تطور عدد من الملفات الدقيقة مثل التوفق في إلغاء محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية واستصدار قانون تاريخي غير مسبوق لضمان حقوق المهاجرين بالمغرب؟.
إن هذا ما يجعل المغرب، في موقع طبيعي للفرح بمنجزه أنه منتصر للمستقبل، من خلال مبادرات دولية مماثلة، تترجم بالملموس بعض الاجتهاد الإنساني لتحقيق معنى الحداثة. لأن الحداثة ليست شعارا سياسيا فقط، بل هي مشروع يستوجب رؤية وإستراتيجية ومنهجية لترجمته على أرض الواقع. ها هنا، المغرب يقدم نموذجا بناء، في فضائه العربي والإسلامي، في فضائه المتوسطي والإفريقي، بدلا من كل اليأس الذي تعممه أشكال متعددة للتطرف أو للاستبداد السياسي هنا وهناك في دنيا العرب. ها هنا النموذج المغربي واعد.. وها هنا هو مستهدف أيضا من بعض الشمال ومن بعض الجنوب، وهذا ما يستوجب وعيا عاليا للحذر الحامي المحتضن عند المواطن المغربي، الدرع الأكبر لحماية مشروع حداثة مماثل.