هو لا شاعرٌ ولا موسيقي، ومع ذلك... في صمت عيادته لطب الاسنان، يهمس هدير "فراشته" كما لو أنه قوس كمانٍ يعزف على أوتار الألم الخفية.
هو لا ينحت رخامًا ولا برونزًا، بل يشكّل بأصابعه الموهوبة ابتسامةً جُرحت، سنًّا أُنهكت، وعصبًا يصرخ في صمتٍ لا يسمعه أحد.
ذاك هو جرّاح الأسنان... صائغُ البسمة، عاملُ الظلال الذي نخافه في البدء، حتى يأتي اليوم الذي نكتشف فيه أنه ليس سوى ساحرٍ يملك مفاتيح الرحمة.
دخلتُ عيادته كما يدخل المرء بيوت الله، بخطى مرتجفة، وفمٍ مفتوح على الخوف، وقلبٍ يئنّ من رعبٍ يتربّص.
كان وجعي حيوانًا مفترسًا، ينهش نومي، ويمزقني بلا رحمة... لكنه، هو، بنظرةٍ هادئة، وصوتٍ ناعمٍ كالقطن المبلول، مسح خوفي بكلماتٍ دافئة.
بإيماءة دقيقة، كأنها رقصة خفيفة، غرز الإبرة في لثتي حيث كان الألم يلتفّ كأفعى.
ثم... زرع النسيان، وبذر الخَدَر، ومنحني استراحةً من العذاب.
ثم... زرع النسيان، وبذر الخَدَر، ومنحني استراحةً من العذاب.
لم أشعر بالوخز.
ربما لأن يديه تتحدثان إلى الجسد كما يتحدث العاشق إلى روح من يحب.
ربما لأن يديه تتحدثان إلى الجسد كما يتحدث العاشق إلى روح من يحب.
ثم، بلا تسرّع ولا تراخٍ، ذهب نحو جذر العطب.
أزال روح الألم من السنّ، اقتحم قنواتها كغوّاصٍ يبحث في أعماق الحياة، يطارد العصب المرتعش ليُسكِنه... ليُطفئه.
أزال روح الألم من السنّ، اقتحم قنواتها كغوّاصٍ يبحث في أعماق الحياة، يطارد العصب المرتعش ليُسكِنه... ليُطفئه.
وكنتُ أنا، الممدّد كطفلٍ في حضن الغيب، لا أخاف... لأنني بين يديّ معلّمٍ لا يُخطئ.
أخذ صورةً شعاعية.
فهو لا يترك للصدفة موطئ قدم.
يفتش في الغيب، ويقيس ما لا يُقاس، يُحدّق في الصورة كما يُحدّق العالم في المِجهر... بعين الأخ، بقلب الحبيب.
فهو لا يترك للصدفة موطئ قدم.
يفتش في الغيب، ويقيس ما لا يُقاس، يُحدّق في الصورة كما يُحدّق العالم في المِجهر... بعين الأخ، بقلب الحبيب.
ثم أغلق السنّ، بمادةٍ كأنها من جوهر ثمين، وصقلها كأنها ماسةٌ تحت يدي صائغٍ من الزمن الجميل.
يعمل بالدقّة، ويفكر في الكل.
فكل سنٍّ عنده نغمةٌ في معزوفةٍ سرّية.
يُعيد تناغم الفكين كما يُعاد ضبط البيانو.
يرمم التوازن، ويزرع الجمال في حقل الوظيفة.
فكل سنٍّ عنده نغمةٌ في معزوفةٍ سرّية.
يُعيد تناغم الفكين كما يُعاد ضبط البيانو.
يرمم التوازن، ويزرع الجمال في حقل الوظيفة.
خرجتُ من عنده بلا وجع.
لكن الأهم... أنني خرجتُ وفي داخلي شهادةٌ على نُبل المهنة، وعلى يدٍ ارتفعت بالممارسة إلى مقام الفنّ، ومقام الرحمة.
لكن الأهم... أنني خرجتُ وفي داخلي شهادةٌ على نُبل المهنة، وعلى يدٍ ارتفعت بالممارسة إلى مقام الفنّ، ومقام الرحمة.
لم يكن علاجًا.
كان خَلقًا.
كان إنقاذًا للكرامة، وللإنسانية.
كان خَلقًا.
كان إنقاذًا للكرامة، وللإنسانية.
إليكَ، يا من تروّض الألم بهدوء الحكماء، وتعيد الابتسامة من دون ضجيج... أُهدي هذه الكلمات.
أنتَ لستَ فقط عازف "الفراشة"...
أنتَ لستَ فقط عازف "الفراشة"...
أنتَ موسيقيّ صمتنا المرتاح.
شكرًا لك.
شكرًا لك.
إهداء إلى صديقي د. جمال الدين فُوكي