في زمن عز فيه الوضوح وكثرت فيه الشعارات، يبرز اسم عبد اللطيف وهبي، وزير العدل المغربي، كعلامة فارقة في المشهد السياسي الوطني، ليس لأنه يحظى بإجماع أو تصفيق، بل – وربما لهذا السبب بالذات – لأنه يجسد نموذجاً نادراً لرجل سياسة قرر أن يضع يده داخل "عش الدبابير" دون قفازات.
لم يكن وهبي يوماً سياسياً شعبوياً يُدغدغ مشاعر الجمهور بخطابات خشبية أو وعود فضفاضة، بل قد يكون، من فرط صراحته وحدّته أحياناً، قد كلف نفسه غالياً في بورصة الشعبية الزائفة، ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الرجل قد خاض، منذ توليه حقيبة العدل، معارك صعبة تلامس جوهر الإصلاح المؤسساتي في المملكة، بدءًا من توطيد استقلال السلطة القضائية، وتخليق العدالة، وتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات، وكذا تحسين نجاعة القضاء وتحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها، وصولاً إلى مراجعة القوانين بما يتناسب مع المرحلة الراهنة مثل قانون المسطرة الجنائية ثم مدونة الأسرة، ومروراً بقضايا شائكة مثل تجريم الإثراء غير المشروع، وتوسيع صلاحيات النيابة العامة، وتحديث مهن العدالة. ومما لا شك فيه أن هذا النهج الإصلاحي تطلّب منه بذل جهد كبير لتعزيز التنسيق المؤسسي بين مختلف الفاعلين في منظومة العدالة.
لكن هل يُكافأ السياسيون في المغرب حين يحاولون الفعل عوض الاكتفاء بالكلام؟
هذا سؤال تطرحه تجربة وهبي بمرارة، فمنذ تعيينه وزيراً، تعرض الرجل لسيل من الانتقادات، بعضها مشروع بالنظر لطبيعة منصبه الحساس، وبعضها الآخر لا يخلو من شخصنة مفضوحة ونزعات تشويه متعمدة، ولئن كانت السياسة حلبة للصراع، فإن الصراع حول وهبي تجاوز سقف الأداء المهني إلى محاولات نزع الشرعية الأخلاقية عن وجوده السياسي برمّته.
وهنا تبرز مفارقة محزنة في الحياة السياسية المغربية: من يُحدث ضجيجاً إعلامياً بلا محتوى، يُستقبل بالترحيب، ومن يحاول تحريك الماء الراكد، يُتهم بالتغوّل، أو يُقدّم كقربان لفشل جماعي. وهبي لا يدّعي العصمة، وهو نفسه أقرّ غير مرة بأخطاء سياسية وتواصلية، لكنه، عكس كثيرين، لم يختبئ خلف صمت مريح أو لغة مُهادنة.
تجربة وهبي يجب أن تُقرأ في سياق أوسع من مجرد أداء وزير في حكومة، إنها مرآة لمأزق الإصلاح السياسي في المغرب، حيث تُستقبل كل محاولة للمراجعة أو التحديث بمقاومة مزدوجة: من قبل نخب مترددة تخشى التغيير، ومن قبل رأي عام سريع الغضب وبطيء الفهم لطبيعة التحولات. في هذا المناخ، يصبح وهبي نموذجاً لرجل سياسة يُمارس الإصلاح بجرأة، لكنه يُحاسب كأنه عدو للدولة، لا خادم لها.
ولعل المفارقة الأكبر أن هذا الهجوم لا يأتي فقط من خصوم سياسيين تقليديين، بل حتى من داخل الحقل الذي يُفترض أنه يُقاسمه المشروع ذاته. لقد تحوّل عبد اللطيف وهبي إلى موضوع تجاذب يُخفي، في طياته، عجزاً أعمق عن التوافق حول أولويات الإصلاح وأدواته. هل نريد فعلاً تحديث المنظومة القضائية؟ هل نسعى حقاً إلى فصل فعلي للسلطات؟ هل نحن مستعدون لمجتمع مدني وسياسي يقبل النقاش ويحتكم إلى المؤسسات بدل التشهير؟ أم أن “الإصلاح” مجرد كلمة نُرددها حين نعارض، ونحاربها حين نصل إلى السلطة؟
من المؤكد أن الوزير وهبي لا يُجيد فن العلاقات العامة بالقدر الذي يُجيد فيه الاشتغال على الملفات العميقة، وهذه سمة نادرة لكنها مكلفة سياسياً في بيئة يغلب فيها التسويق على الأداء. لذلك فإن تقييم تجربة وهبي لا يجب أن يُبنى على عدد المتابعين على "فايسبوك"، بل على مدى تحريك ملفات كانت، حتى وقت قريب، محظورة أو مؤجلة.
وفي مشهد سياسي مغربي تتقاذفه الاستقطابات والانطباعات، كثيرًا ما تتحول النقاشات حول الفاعلين الحكوميين إلى مواجهات شخصية، يغيب فيها التحليل الرصين لصالح الانفعال اللحظي، وضمن هذا السياق يجد وزير العدل عبد اللطيف وهبي نفسه في قلب عاصفة من التقييمات المتضاربة، تتأرجح بين خطاب التقريع وأدبيات الإنكار، بينما تُغفل معطيات الإصلاح الملموسة التي تشهدها الوزارة تحت إشرافه.
ليس المطلوب، بطبيعة الحال، تعطيل النقد أو مصادرة الآراء، بل استدعاء أدوات التحليل النزيه الذي يزن الإنجاز بميزان الوقائع لا الانطباع، ويقرأ مواقف الرجل من زاوية المؤسسات التي يمثلها لا من منظور مزاجي يختزل سنوات من العمل في موقف إعلامي أو تصريح اقتُطع من سياقه.
أولًا: إصلاح تشريعي بمنهج تراكمي لا بشعارات طوباوية
من بين أكثر المواضيع إثارة للجدل نجد التشكيك في «الروح الإصلاحية» للتشريعات التي أعدتها وزارة العدل في عهد وهبي، وهذا ادعاء لا يصمد أمام التدقيق في مسارات عدة مشاريع قوانين، حيث واصلت الوزارة تحيين الترسانة القانونية المرجعية، من خلال إعداد مشاريع نوعية، كالقانون المتعلق بالمسطرة المدنية، والعقوبات البديلة، وتنظيم المؤسسات السجنية، فضلًا عن قرب استكمال مشروع القانون الجنائي، ومصادقة الحكومة على مشروع قانون المسطرة الجنائية. هذه خطوات من شأنها تعزيز الأمن القانوني وضمان الحقوق والحريات في مغرب يتطلع إلى عدالة أكثر فعالية ومصداقية.
وعلى سبيل المثال، فإن المادة المتعلقة بالإثراء غير المشروع، التي يتهم الوزير بتعطيلها، لم تُلغَ بل أُدرجت ضمن رؤية تشريعية شاملة تهدف إلى سد الثغرات وضمان تطبيق فعال بعيدًا عن الانزلاق نحو المتابعات الكيدية، أبرزها القانون الجنائي الذي يتضمن بنودًا عن الإثراء غير المشروع. وفي مقابل ذلك، نجد تأكيد المسطرة الجنائية على قرينة البراءة. ولعل مشروع المسطرة الذي أعيدت صياغته جاء ليعكس توازنًا بالغ الدقة بين مقتضيات المحاسبة والضمانات الحقوقية.
إن وهبي في هذا الباب لم يتبنّ موقفًا ارتجاليًا، بل تعامل مع المادة ضمن منطق استراتيجي يضع مكافحة الفساد ضمن نسق قانوني متكامل، لا كعُملة رمزية للاستهلاك السياسي.
ثانيًا: الحريات الفردية والإعلام.. من هوامش الصراع إلى منطق المؤسسات
إن وصف الوزير بأنه "عدو للصحافة الحرة" تعبير يندرج في خانة الإثارة أكثر من كونه حكماً موضوعيًا، فالعلاقة بين السلطة والإعلام – في أي نظام ديمقراطي – تقوم على مبدأي التوتر الخلّاق والتوازن المؤسساتي، ولا يمكن تحميل وزير العدل مسؤولية متابعات قضائية تصدر عن النيابة العامة المستقلة، أو اختزال سياسات الدولة في مواقف شخصية مزعومة.
بل إن وهبي، الذي كان إلى وقت قريب فاعلًا إعلاميًا بنفسه، يدرك حساسية هذا المجال، وتُحسب لفترته المساهمة في تعزيز مسار إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر، وهو تحول تشريعي نوعي في المغرب، جرى في إطار توافق حكومي أوسع.
ثالثًا: المحامون والوزارة.. جدلية الشراكة لا القطيعة
أي إصلاح جذري في العدالة لا بد أن يصطدم بتفاوت المصالح، ولا يمكن أن يحظى بإجماع مطلق، لا سيما من طرف الهيئات المهنية. وهبي، في اختياره الدخول في مواجهات محسوبة مع بعض مكونات الجسم المهني (كما في حالة هيئة المحامين)، لم يكن يهدف إلى كسر التوافق، بقدر ما كان يسعى إلى فرض نقاش إصلاحي حول شروط الممارسة وتحديات المهنة.
التوتر في هذه الحالة ليس دليلًا على "إهانة" أو "عداء"، بل من أعراض الإصلاح الجاد حين يلامس أعصابًا حساسة في البنية التقليدية للمرفق العدلي. الحوار لم يتوقف، بل استمر على أكثر من صعيد، والمؤشرات القادمة من الوزارة تفيد بوجود نوايا مشتركة لتجاوز الخلافات نحو منظومة مهنية أكثر كفاءة ومساءلة.
رابعًا: الإصلاح في الميدان.. بين الرقمنة والإنصاف المهني
الحديث عن إنجازات وهمية أو تغييرات سطحية في وزارة العدل خلال السنوات الأخيرة لا يصمد أمام فحص الواقع، فالإصلاحات الملموسة شملت مجالات متعددة، أبرزها التحول الرقمي الذي حول المحاكم المغربية من مؤسسات تقليدية مرهقة بالإجراءات الورقية، إلى فضاءات رقمية تقدم خدمات عن بعد، وتتيح للمتقاضين والمحامين تسريع المساطر وتقليص التكاليف.
كما أن مشاريع مثل "محكمتي"، والسجل العدلي الإلكتروني، والجلسات عن بعد، لم تكن لتتحقق دون رؤية تنفيذية واضحة وإرادة سياسية موجهة، وهي عناصر لا يمكن إنكارها في عمل الوزير وهبي.
إلى جانب ذلك، بذلت جهود نوعية في تهيئة البنية التحتية للمحاكم، وتطوير المرافق، وتحسين ظروف العمل، مما انعكس على جودة الخدمات العدلية. وتُضاف إلى هذه التحولات مسارات تشريعية قادها وهبي شخصيًا، كإعادة صياغة المسطرة الجنائية، وتعديل قانون مهنة المحاماة، وتطوير قوانين التوثيق والمسطرة المدنية.
خامسًا: العنصر البشري في قلب الرؤية الوزارية
مقاربة الوزير الإصلاحية لم تُهمل العنصر البشري، بل وضعت العاملين في قطاع العدل – وخصوصًا هيئة كتابة الضبط – في قلب الاهتمام. فمن خلال تعديلات متكررة للنظام الأساسي، وتحسينات في المكاسب المادية (من بينها منح تعويضات غير مسبوقة)، استطاع وهبي أن يعيد الاعتبار لفئة لطالما ظلت مهمشة في خطاب الإصلاح.
ولم تقتصر الجهود على الدعم المادي، بل شملت كذلك فتح مسارات التكوين والترقي، وفتح النقاش حول تيسير ولوجها إلى المهن القانونية والقضائية، وإدماج هذه الهيئة في رؤية تحديث العدالة باعتبارها شريكًا لا مجرد منفذ للتعليمات الإدارية.
سادسًا: العدالة تُعيد رسم خريطتها: عندما تخرج المحاكم من المركز إلى الهامش
في مغرب 2024، لم تكن مشاريع العدالة مجرد أوراش بنى تحتية أو إعلان نوايا سياسية، فقد أشرف الوزير عبد اللطيف وهبي على تنفيذ 186 مشروعاً من مشاريع البناء والتهيئة في مختلف جهات المملكة، فيما يشبه "ورشة وطنية مفتوحة" لتوسيع التغطية القضائية وتكسير تمركز السلطة القضائية في المحاور التقليدية. خمس محاكم جديدة رأت النور، و21 بنية أخرى جاهزة للافتتاح، وباستثمار إجمالي يناهز 255.22 مليون درهم تمت تغطية عدد المشاريع المنتهية بها الأشغال والجاهزة للتدشين برسم سنة 2024، على مستوى 8 دوائر قضائية. هذه ليست مجرد أرقام تقنية، بل رسائل موجهة إلى الأطراف التي طالما ربطت العدالة بالمركز وربطت التهميش بالهامش.
لكن وهبي لم يكتف بإنجازات ملموسة، بل واصل الإشراف على 59 مشروعاً آخر قيد التنفيذ، تشمل بناء محاكم جديدة، وتوسعة وتجهيز محاكم قائمة، وفي الخلفية، يُدبّر مشاريع ضخمة بكلفة إجمالية تجاوزت 1.32 مليار درهم لبناء وإعادة بناء وتوسعة مختلف البنايات القضائية التي تقوم الوزارة بتتبع تنفيذها ضمن 18 مشروعًا. إنه التزام مالي وسياسي غير مسبوق، يُعيد للعدالة موقعها بوصفها خدمة عمومية لا امتيازًا حضريًا.
سابعًا: منظور متعدد السنوات: العدالة كأفق استثماري
لا يتعامل الوزير وهبي مع قطاع العدل بمنطق ميزانية سنوية، بل برؤية تخطيطية متعددة السنوات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد في 2025 أن الوزارة برمجت العديد من المشاريع الجديدة، وضخت أزيد من 127.7 مليون درهم بميزانية الاستثمار و596.5 مليون درهم بالحساب الخاص للمديريات الإقليمية والمديريات الجهوية والإقليمية لوزارة التجهيز والنقل، في إطار اتفاقية الإشراف المنتدب مع الوكالة الوطنية للتجهيزات العامة، وذلك من أجل استكمال الأوراش المفتوحة من بناء وتجهيز وتحديث ورقمنة المحاكم، وإطلاق أوراش ومشاريع جديدة بالدوائر القضائية.
إننا أمام تحول نوعي في المقاربة، بحيث باتت العدالة تُستثمر، تُخطط، وتُدار بمنطق استراتيجي. ومن خلال هذا النهج، يكشف وهبي عن وعي عميق بأن كسب ثقة المواطن لا يمر فقط عبر الأحكام، بل عبر المساطر والفضاءات والرقمنة والولوج.
ولعل الأهم من كل ذلك، أن ضخ هذه الاعتمادات لم يعد حكراً على المحاور الحضرية الكبرى، بل بات موزعًا بتوازن جغرافي يُقوّض سردية "جمود الوزير"، ويُحيلها إلى خطاب سياسي عاجز عن مجاراة لغة المؤشرات.
ثامنًا: العدالة تنزل من الرباط إلى تنغير
حين نُمعن في خريطة المشاريع القضائية الجارية، نلاحظ تحولًا دقيقًا ولكنه عميق: العدالة تتنفس في الأطلس، في الجنوب، في الهامش. إنه انقلاب هادئ على مركزية قضائية ظلت لعقود تستبطن تمايزًا غير معلن بين "مغرب العدالة" و"مغرب الانتظار". الوزير وهبي لم يخفِ هذا التوجه، بل عبّر عنه بوضوح في أكثر من مناسبة، حين دعا إلى نقل العدالة إلى القرى، إلى الجبال، إلى المناطق التي اعتاد أهلها السفر ساعات لرؤية قاضٍ.
فلسفة "عدالة القرب" و"المحاكم بالبوادي والقرى" لم تعد مجرد شعارات خطابية، بل جزءًا من سياسة عمومية تُعيد التفاوض حول العلاقة بين الدولة والمجال. إنها مقاربة تفرض أيضًا إعادة توزيع الموارد البشرية والمالية، وطرح سؤال الإنصاف المؤسساتي على مستوى تدبير جهاز القضاء نفسه.
تاسعًا: حين تُصبح المحكمة عنوانًا لعدالة الدولة
في الوقت الذي تُنفق فيه بعض الخطابات مجهودًا كبيرًا في تصنيف الوزير، يبدو أن عبد اللطيف وهبي قد تجاوز شخصه ليتحول إلى فاعل جهوي ينفّذ ما ظل لعقود شعارًا: "القضاء في خدمة المواطن، حيثما وُجد المواطن". وبينما ينتظر المنتقدون تعثراً ما، تمضي الخريطة القضائية في التشكل، ليس كامتداد إداري، بل كحضور رمزي للدولة في عمق المغرب.
ختامًا: وهبي بين الإنصاف السياسي والتقييم العقلاني
لسنا هنا بصدد تلميع صورة وزير العدل أو الدفاع عن شخصه، بل نروم تصحيح ميزان النقد حين يختل، وتذكير الرأي العام بأن الإصلاح المؤسساتي لا يُقاس بالتصريحات الإعلامية أو الحضور الخطابي، بل بعمق التحولات التي يراكمها الزمن.
قد يُخطئ وهبي في أسلوبه أحيانًا، وقد يُفهم بعض خطابه على نحو يثير الجدل، لكن قراءة حصيلته الوزارية تضعنا أمام رجل سياسي اختار أن يشتغل على الملفات الثقيلة لا على الشعبية الرخيصة، وأن يخوض معارك إصلاح العدالة من داخل دهاليز المؤسسات، لا من على أرصفة التنظير الفارغ.