نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات والأبحاث في حضارة المغرب وتراث المتوسط " ومؤسسة فهارس لخدمات الكتاب، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف، وذلك يوم الأربعاء 14 ماي بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات والشهادات تضمنها كتاب جماعي بعنوان:" التنوير أفقا " قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية.
"أنفاس بريس "، تنشر النص الكامل هذا التقديم والذي اخترنا له كعنوان:"عندما تصير الكتابة الفلسفية إختيارا وجوديا ":
يشــكل هــذا الكتــاب مناســبة متجــددة يبرهــن فيهــا أســاتذة شــعبة الفلســفة بكليــة الآداب والعلـوم الإنسـانية بالربـاط عـن إحسـاس جماعـي مـزدوج؛ الإحسـاس بالكثافـة الرمزيــة لِمــا يمثلــه الانتمــاء إلــى شــعبة تأســس داخلهــا الــدرس الفلســفي المعاصــر في المغـرب، ومـا قامـت بـه مـن أدوار طائعيـة في جعـل الفلسـفة في قلـب الحـراك المعـرفي والثقــافي الوطنــي منــذ ســتينيات القــرن الفائــت؛ وإحســاس بحجــم المســؤولية البيداغوجيـة والفكريـة التـي تـبرز في الحاجـة إلـى المسـاهمة، كل مـن موقعـه ومنسـوب عطائـه، في الحفـاظ علـى أدوار هـذه الشـعبة لتوسـيع مسـاحات الاهتمـام بقضايـا الفلسـفة وأسئلتها المتجددة في بادنا.
واعتبــارا للمنطلــق الفكــري والإيثيقــي الــذي وضعــه أســاتذة هــذه الشــعبة لإطــار مــا أســموه «فكــر واعــتراف» فإنهــم، ومــن دون أيــة مجاملــة مجانيــة أو إطــراء مفتعــل، يعملــون بالفعــل وبحيويــة لافتــة، علــى ترجمــة ذاك الإحســاس المــزدوج إلــى فــرص لاســتعادة إشــعاع شــعبة الفلســفة ومنحهــا الأدوار الطبيعيــة التــي عليهــا إنجازهــا مــن تنشـيط فكـري، وتحفيـز تواصلـي، وتوسـيع دوائـر النظـر والفكـر والسـؤال، إلـى جانـب المســؤولية المعتــادة مــن تدريــس، وتأطيــر. ولعــل هــذا الســقف الفكــري والأخاقــي الـذي اختـار الأسـاتذة وضـع ذواتهـم داخلـه يحقـق، عمليـا، مـا كان «إيميـل دوركهايـم» يلــح عليــه حيــن اعتــبر «أن الإنســان الــذي يلتــزم بواجبــه ويقــوم بــه، يجنــي التعاطــف والاعتبــار والمحبــة التــي يحملهــا عنــه أقرانــه، بحيــث يتملكــه نــوع مــن الارتيــاح الــذي يدعمه ويرفع من شأنه.»
وحسـبي أن هـذا الشـعور يُولـد ذلـك «التناغـم الأخاقـي» مـع الأقـران، ويمنح ثقة أكـبر في الإنسـان، الـذي يتعـرض في زمننـا لأفضع أشـكال الإهانـات والسـحق والاحتقار، وينتـج جاهزيـة متجـددة علـى المسـاهمة والتفكيـر والعمـل، ومجابهـة أسـباب الإحبـاط والتيئيس والتعجيز التي تحيط بالعمل المؤسسي والفكري في بادنا.
فليــس الاعـتراف مجــرد شــعار، ولفظــة شــاع تداولهــا مــن دون إدراك مــا تختزنــه مـن دلالات تحفيزيـة، ومـا تنتجـه مـن رضـا، وطاقـة علـى المبـادرة والإبـداع. فالاعتراف نتـاج تربيــة وثقافــة واختيــار، يكـون فيـه المـرء قــادرا علـى تجــاوز شــرنقة الأنــا الضيقــة، وينخــرط في معمعــة الفعــل الجماعــي الــذي ينتــج المعنــى والشــعور بالامتــاء عنــد إنجاز عمل فيه فائدة ومنفعة للآخرين.
ولعـل هـذا الكتـاب يعـبر عـن الترجمـة الفعليـة لهـذا الاختيـار الفكـري والإيثيقـي الــذي انخرطــت فيــه شــعبة الفلســفة في الربــاط؛ ويكثــف دلالات تصديــق علــى هــذا الأفـق الـذي فتحـه أسـاتذتها، بتخصيصـه للمنجـز الفكـري للأسـتاذ كمـال عبـد اللطيـف بوصفــه أحــد أبــرز مــن يمثــل الجيــل الثــاني ممــن حملــوا علــى عاتقهــم إدمــاج الــدرس الفلســفي في الوعــي المغربــي المعاصــر. فبعــد الفتوحــات التــي قــام بهــا الأســاتذة المؤسســون لهــذا الــدرس مــع محمــد عزيــز الحبابــي، وعلــي أومليــل، ومحمــد عابــد الجابـري، وجـد كمـال عبـد اللطيـف نفسـه منخرطـا، وبشـكل طبيعـي، في مسـار جماعـي لتوســيع دوائــر الاهتمــام بقضايــا الفلســفة، والفكــر، والمعرفــة، مــن منطلــق الوعــي الواضــح بــأن هــذه القضايــا لا يمكــن حصرهــا بيــن جــدران الفصــل الدراســي وأركان المدرجـات، لأنهـا تمتلـك أبعـادا سياسـية ومجتمعيـة وتاريخيـة يتعيـن تصريفهـا في أكثـر المجالات، وبكل الطرق والآليات.
إن المنجــز الفكــري الــذي حققــه كمــال عبــد اللطيــف طيلــة العقــود الأربعــة الأخيــرة يشــهد لــه بحيويــة لافتــة في الحقــل الفلســفي والمعــرفي المغربــي والعربــي، وبانتظاميـة مُسترسـلة في الكتابـة والبحـث والمواكبـة والحضـور. فإلـى جانـب أفـراد مـن جيلـه أمثـال سـالم يفـوت، ومحمـد سـبيا، وعبـد السـام بنعبـد العالـي، وجمـال الديـن العلــوي، وســعيد بنســعيد العلــوي، ومحمــد وقيــدي، وغيرهــم ســاهم بقســط وافــر في الإعـاء مـن قيـم الاجتهـاد، والإنتـاج، والالتـزام بالأهميـة الحاسـمة للفكـر الفلسـفي في أيـة نهضـة وطنيـة، وبالقيمـة المُنتجـة للمعرفـة في الخـروج مـن شـرنقة الفكر الأسـطوري، والتحرر من سطوة الأبوية والاستبداد.
لقـد جعـل كمـال عبـد اللطيـف مـن الكتابـة اختيـارا وجوديـا وليـس مجـرد تعبيـر عـن التزامـات أكاديميـة، أو أداة للتواصـل؛ فهـو يعـرف كيـف يسـتثمر القاموس المناسـب لـكل إطـار يكتـب فيـه. قـارئ كبيـر ومنتظـم لـكل مـا يسـتجد مـن كتـب ونصـوص سـواء
في الفكــر الإنســاني، أو العربــي والمغربــي؛ فضــا عــن شــغفه البــارز بالمجــالات الفنيــة والإبداعيــة. حافــظ علــى هــذا الفضــول الطبيعــي لديــه في الاطــاع والقــراءة والمواكبــة؛ ويحســب لــه أنــه يتميــز عــن أقرانــه باهتمامــه الواعــي والمسترســل بقــراءة مــا يكتبــون، يقدمهــا، ويعرضهــا مــن دون حــرج وبتواضــع الكبــار، ويناقشــها، ويجــادل أطروحاتهــا من دون تردد وبالوضوح الذي عرف عنه.
يصعــب حصــر الموضوعــات والمجــالات التــي كتــب فيهــا وعنهــا كمــال عبــد اللطيــف؛ وإن كانــت المســألة السياســية، والفكــر السياســي شـكّا، ومــا يــزالا، أبــرز مــا دارت عليـه انشـغالاته البحثيـة والتأليفيـة. اهتـم بالفلسـفة اليونانية، وبالفلسـفة السياسـية، وبفلســفة التاريــخ، وبالفكــر العربــي الحديــث والمعاصــر؛ بــل إنــه مــن أوائــل المغاربــة الذيــن حضــروا أطروحــة عــن الفكــر العربــي الحديــث في شــعبة الفلســفة؛ ويعتــبر مــن أكثــر العارفيــن بنشــأة وتطــور الفكــر الليبرالــي العربــي وأعامــه ومآلاتــه، وحــرَّر أهــم كتــاب عــن الفلســفة ومســارات الإنتــاج الفلســفي في المغــرب، رصَــد فيــه التحــولات التــي طــرأت علــى هــذا الإنتــاج منــد بداياتــه في القــرن الماضــي إلــى بدايــة الألفيــة الجديــدة؛ حيــث أبــرز الإســهامات الفلســفية التــي قدمهــا المشـتغلون بهــذا المبحــث في ســياق انخــراط مــن أنتجــه في معمعــة الممارســات الثقافيــة والسياســية المتنوعــة التــي عرفهــا المغــرب طيلــة أربعيــن ســنة. وقــف عنــد المرجعيــات المعتمــدة، والمناهــج المتبعــة عنــد هــذا الفيلســوف أو ذاك، أبــرز المفاهيــم واللغــات المســتعملة، والحقــول الجديــدة التــي ارتادهــا المشــتغلون بالفلســفة كالجماليــات، والبيئــة، وظواهــر الحيــاة اليوميــة، وغيرهــا مــن الموضوعــات خــارج الاهتمامــات المعتــادة بتاريــخ الفلســفة، والتراث، والحداثة.
وقــد أنجــز كمــال عبــد اللطيــف مــا أنجــز في كتــاب «أســئلة الفكــر الفلســفي في المغـرب» )2003(، عـن الإنتـاج الفلسـفي مـن طـرف المغاربـة في إطـار «توثيقـي» يتميـز بفقـر مـزدوج: غيـاب دوريـات ونشـرات تُعنَـى بإصـدارات التأليـف الفلسـفي المغربـي، وتعْرضهــا وتعــرف بمضامينهــا؛ ونقــص فــادح في اهتمامــات الأقْــران والمشــتغلين بالفلسـفة بمـا ينتجـه زماؤهـم مـن كُتـب وتآليـف، وقراءتهـا ومناقشـة أطروحاتهـا. وهـذا لعمــري خصــاص كبيــر وعَــرض مــن الأعْــراض الســلبية في حقــل الفلســفة، ولربمــا في حقـول أخـرى مـن حقـول العلـوم الإنسـانية والاجتماعيـة في بادنـا. ومـع ذلـك، تخطـى كمــال عبــد اللطيــف هــذه النقائــص، وتعالــى عمــا اعـترض ســبيله في عمليــات الجمــع
والتوثيـق والقـراءة، حتـى ولـو أن صاحـب الكتـاب لم يـدَّع الشـمول ورصـد الاجتهادات الفلســفية كافــة، لأنــه ركــز، بالأســاس، علــى «الكتابــة الفلســفية المغربيــة طيلــة العقــود الأربعـة التـي شـهدت تأسـيس الجامعـة المغربيـة، وتأسـيس الـدرس الفلسـفي الجامعـي داخــل كليــة الآداب بالرباط...وعلــى منتــوج الباحثيــن الذيــن انخرطــوا في تدريــس الفلسـفة وتاريـخ الأفـكار والإيديولوجيـات في عاقـة إنتاجهـم بمحيطـه التاريخـي الثقافي العــام وبالمجتمــع المغربــي بأســئلته وقضايــاه الكــبرى في مجــال الفكــر والسياســة والمجتمع والتاريخ.»
يعـرف كمـال عبـد اللطيـف واقـع ممارسـة الـدرس الفلسـفي والبحـث في مجالاتـه وقضايــاه، أولا بحكــم كونــه كان مــن بيــن مؤسســي «الجمعيــة المغربيــة لمدرســي الفلسـفة» لمَّـا كان أسـتاذا بالثانـوي، وبسـبب الوعـي الـذي تكـوَّن لديـه بالصعوبـات التـي اعترضـت وتعـترض المشـتغلين في هـذا الحقـل، المتمثلـة في مظاهـر الخـوف مـن التفكير الحــر، ومــن تشــكيل روح نقديــة لــدى الناشــئة، ومــن تداعياتهــا في الأنســجة المجتمعيــة والسياسـية، خصوصـا وأن الأوسـاط المحافظـة ومختلـف السـلط التـي توظفهـا تمتلـك وســائل متنوعــة لمحاصــرة الأنمــاط التســاؤلية التــي يحــرص الــدرس الفلســفي علــى تكوينهــا والحــث عليهــا. لذلــك فــإن الأســئلة الكــبرى المرتبطــة بمجــالات الفكــر والسياســة والمجتمــع والتاريــخ تشــكل انشــغالات مركزيــة في كتابــات كمــال عبــد اللطيــف؛ بــل لقــد جعلهــا أفقــا دائمــا لمســاهماته، حيــث وجدنــاه ينشــر دراســات ومقــالات عــن إشــكاليات «الإصــاح السياســي في المغــرب» مــن منظــور مــا يســميه ب»التحديــث الممكــن، والتحديــث الصعــب» في بادنــا، ويهتــم بقضايــا المواطنــة، والمشــاركة، ودولــة المؤسســات، واســتعصاءات الانتقــال الديمقراطــي، ومــا يفترضــه مــن تشــخيص لكفــاءات النخــب في الإصاحــات وقــدرات أفرادهــا داخــل الأحــزاب، والنقابـات، وهيئـات المجتمـع المـدني، كمـا يعتـبر أنـه لا يمكـن تخيـل نهضـة ممكنـة مـن دون المشـاركة الفعليـة للمـرأة. ولعـل اهتمـام كمـال عبـد اللطيـف بموضوعـات المـرأة ولِمــا تمثلــه أدوارهــا الحيويــة في الفعــل التاريخــي، جعلــه يتميــز عــن كافــة أقرانــه المحسوبين على الفكر الفلسفي المغربي.
وياحـظ قـارئ أعمـال كمـال عبـد اللطيف الفكريـة المتعلقـة بإشـكاليات النهضة، والحداثــة، والليبراليــة، والديمقراطيــة، والعلمانيــة، والتنويــر والتقــدم كيــف أن فكــره منشـغل، باسـتمرار، بالتباسـات المفاهيـم ومفارقاتهـا التـي يسـتثمرها المفكـرون العـرب
في معالجاتهــم لهــذه الموضوعــات. يعرضهــا، ويفحــص مكوناتهــا الدلاليــة، ويُقلِّــب توتراتهــا المرجعيــة، ويكشــف عمــا يشــكل قوتهــا وتهافتهــا. وحيــن يتحــدث كمــال عبــد اللطيـف عـن الفكـر الفلسـفي المغربـي أو العربـي فلأنـه مطلـع علـى إنتـاج مـن ينتجونـه، ويواكـب أعمالهـم، ويراقـب التحـولات التـي تحصـل علـى نمـط كتابتهـم واسـتنتاجاتهم، ويكتــب عنهــا. وهــي فضيلــة نــادرة في الكتابــات المغربيــة؛ بــل إنــه حافــظ علــى فضــول معــرفي وكأنــك أمــام طالــب مُعبَّــأ دومــا لتلقــي الجديــد، يبحــث عمــا ينشــر، ويلــح علــى الحصول عليه.
ولذلــك فقــد ضَمــن لنفســه حضــورا ثقافيــا ورمزيــا دائمــا، يختــار موضوعاتــه، وأســلوب المعالجــة، والوســاطة المناســبة لتعميمهــا. يكتــب في الجريــدة الســيَّارة، في المجلــة المُحكمــة، ويحــرر المحاضــرات، ويؤلــف الكتــب. يتميــز بحيويــة فكريــة وتواصليــة لا يتقاســمها إلا القليــل مــن أفــراد جيلــه؛ وذلــك بالرغــم ممــا تعــرض لــه وعــكات صحيــة تمكــن كمــال عبــد اللطيــف مــن محاصرتهــا، ومقاومتهــا، وتجاوزهــا بــإرادة فولاذيــة مثيــرة للإعجــاب والدهشــة والفــرح عندمــا يــرى المــرء كمــال وهــو يســتعيد حيويتــه المعهــودة، وحضــوره المميــز. لقــد خــاض مــن أجــل الاســتمرار في التفكيــر والكتابــة معــارك شرســة مــع الــذات، حيــث يدبَّــر التوتــر الــذي يســتولي علــى المــرء، في هــذه الحــالات، بيــن التشــاؤم والتفــاؤل بقــدر عــالٍ مــن العزيمــة، حتــى أنــه حيـن عجـزت اليـد اليمنـى عـن الاسـتجابة لتخطيـط مـا تعـوَّد علـى تخطيطـه، روَّض اليـد اليسـرى، وبشـكل مُبهـر، لكـي تقـوم بالمطلـوب في الكتابـة والتحريـر. وهـو لـم يـتردد في الكتابـة عـن الامتحانـات الجسـدية التـي مـرَّ منهـا، ويبـوح بمـا عاشـه، بطريقتـه المرحـة، عندمــا خذلتــه اليــد ومــا تـترب عــن ذلــك ممــا أســماه وبســخرية لافتــة «مواجــع الدمــاغ المُسـلَية»، والرغبة في الرقص، والتدريب على المشي البطيء، والأحام الراقصة.
كمــال عبــد اللطيــف باحــث ومفكــر وأســتاذ ومُجتهــد، مســكون بقضايــا الفكــر والسياسـة والتاريـخ والأدب. فنـان يعـرف كيـف يتـذوق الفنـون، مـن موسـيقى، وشـعر، وروايـة، ورسـم، وسـينما. يعـترف بهـذا الشـغف في أكثـر مـن نص ومـن كتـاب، وخصوصا في «طعـم الكلمـات»، الـذي يحكـي فيـه عـن عاقتـه باللغـة العربيـة، والشـعر والشـعراء، والروايــة، والتشــكيل، وغيرهــا مــن الفنــون التــي يُرتــب فــرص التفاعــل معهــا بطريقتــه الخاصــة. لا شــك أن عــددا لا بــأس بــه مــن المشــتغلين بالفلســفة دخلــوا غمــار الكتابــة الروائيـة، وهـي ظاهـرة مغربيـة مثيـرة لانتبـاه تسـتدعي التسـاؤل عـن خلفياتهـا وأسـبابها،
وهـل الأمـر يتعلـق بنـزوع إبداعـي حقيقـي يحـرك أصحابهـا وجـدوا في السـرد الروائـي مـا يسـتجيب لمهاراتهـم ولقدراتهـم علـى التخيـل؟ أم أن الإحسـاس بانسـداد القـول الفلسـفي والضجــر مــن تكــرار مقولاتــه هــي التــي أملــت علــى البعــض منهــم اللجــوء إلــى الكتابــة الروائية؟
هــذان الســؤالان ليســا غريبيــن عــن أشــكال تفاعــل كمــال عبــد اللطيــف مــع مــا ينشــره زمــاؤه مــن الفاســفة مــن نصــوص نثريــة وروايــات؛ بــل إنــه لا يخفــي إحساســه الدفيـن بالمبـدع فيـه، ولـو علـى سـبيل الحلـم؛ إذ يقـول: «رأيـت فيمـا يـرى النائـم، أننـي أكمــل روايــة بــدأت كتابتهــا منــذ مــا يزيــد عــن ثاثيــن ســنة، وفي كل مــرة كنــتُ أجــد المــبررات التــي تحــولُ بينــي وبيــن عمليــة إتمامهــا. إلا أن اســتمرار شَــغَفي بالتخييــل، جعلنــي أواصــل كتابتهــا دون توقــف...، وداخــل منعطفــات الحلــم ودوائــره، تذكــرت أننـي قـررت ذات يـوم في مطلـع سـبعينيات القـرن الماضـي، أن لا أنتهـي مـن قـراءة روايـة «الصخــب والعنــف» لفولكنــر. ومــا زلــت وفيــا لعهــد حصــل بينــي وبيــن نفســي...أقرأ منهــا كل مــرة صفحــات، وأعيــد قــراءة أخــرى. فهــل أتجــه اليــوم بعــد مــرور كل هــذا الوقـت إلـى ارتـكاب حماقـة إنهـاء الروايـة التـي بـدأت كتابتهـا ذات يـوم في زمـن مضـى؟» طعم الكلمات( ص 69).
بعدمــا أنتــج كمــال عبــد اللطيــف مــا أنتجــه مــن كتــب ومؤلفــات في شــؤون الفلســفة، والفكــر السياســي وقضايــا المجتمــع، يظهــر لِمــن قــرأ نصوصــه النثريــة، أن الرجــل يحــوز ثــراء لغويًــا، واندفاعــة تخييليــة، ونزوعًــا شــاعريًا يتيــح لــه الخــروج مــن منطقــة الحلــم إلــى التحقــق الســردي الروائــي. ولعــل هــذا الكتــاب، وبحكــم تركيــز المشــاركين فيــه علــى انشــغالات كمــال الفكريــة والسياســية بالأســاس، فــإن المشــرفين عليه انتبهوا، أيضا، إلى ما يسكن كمال من شغف بالإبداع والفن.