Wednesday 7 May 2025
فن وثقافة

أسلامة أشطوط.. عندما يجتمع عمق البحث التاريخي وصدق الانتماء العاطفي في كتاب حول طانطان

أسلامة أشطوط.. عندما يجتمع عمق البحث التاريخي وصدق الانتماء العاطفي في كتاب حول طانطان أسلامة أشطوط ومؤلفه "الطنطان: التاريخ–المجال–الإنسان"
نادرا ما يجتمع في عملٍ علميٍ واحدٍ عمقُ البحث التاريخي ودقته، مع صدق الانتماء العاطفي للمكان، غير أن الدكتور أسلامة أشطوط استطاع في مؤلفه "الطنطان: التاريخ–المجال–الإنسان" أن يُزاوج بين العلمية والوفاء، بين المعطى الأكاديمي والتحليل المتأمل، بين الواقع والذاكرة. 

وقد كان لي، بفضل علاقة الأخوّة والصداقة التي تجمعني بالمؤلف، شرف أن أكون أول من يطّلع على هذا العمل قبل صدوره، وذلك بعد إصرار مني، واستجابة كريمة منه. وحين بدأت التوغل في القراءة، وجدتني، دون شعور، أقرر أن أكتب هذه القراءة، لا فقط بما يمليه عليّ الواجب العلمي، بل وفاءً لهذه الثقة الغالية، وامتنانا لهذا الإهداء المعنوي الثمين، وعرفانا بالجميل لصديق وفيّ وأكاديمي ملتزم.
 
في زمن باتت فيه الذاكرة الجماعية مهددة بالتآكل، وتكاد الأمكنة تفقد أسماءها تحت ضغط التحولات الكبرى، يطل علينا الدكتور الباحث أسلامة أشطوط بعمل فريد في بنيته، عميق في طرحه، مشوق في لغته، يحمل عنوانا لافتا: "الطنطان: التاريخ–المجال–الإنسان". ليس هذا المؤلَّف مجرّد دراسة أكاديمية تقليدية، بل هو مشروع علمي موسوعي ينهل من التاريخ بقدر ما يغترف من نبض الأرض وأصوات الناس. 

جاء الكتاب محمولا على رؤية علمية دقيقة، تحترم ضوابط البحث الأكاديمي، لكنها لا تنغلق عليه؛ فالسرد فيه حي، واللغة نابضة، والتحليل متزن. يقف القارئ أمام عمل يشبه الرحلة؛ رحلة فكرية وعاطفية تمتد على خارطة الطنطان، حيث تتعانق الذاكرة مع الجغرافيا، وتتشابك السير الذاتية مع مسارات القبائل، لتعيد كتابة تاريخ ظل في الظل طويلا. 
 
يتميّز هذا الإصدار بمعالجة جريئة وموثقة لفترة الحماية الإسبانية، ليس من منطلق الأرشيف وحده، بل من خلال شهادات أهل الأرض، والوثائق الميدانية، والخيوط الرقيقة التي تربط الحدث بالوجدان. لقد نجح الكاتب في تطويع أدوات متعددة — من التاريخ إلى السوسيولوجيا، من الأنثروبولوجيا إلى الجغرافيا — لصياغة مشهد مركب، دقيق، وواسع الأفق. 
 
ومن بين الفصول اللافتة في هذا المؤلَّف، فصل خصّصه لموسم الطنطان، هذا الحدث الثقافي والاجتماعي الذي يُعدّ مرآة صادقة لهوية الصحراء. تناول الكاتب الموسم لا كاحتفال عابر، بل كأثر اجتماعي عميق، وكفضاء تلتقي فيه القبائل، وتُستعاد فيه طقوس الرحل، وتُستعرض فيه المهارات، والحِرف، والأشعار، وفنون العيش تحت الشمس والنجوم. 
 
ولعل أجمل ما يميز هذا القسم هو القراءة العميقة والمتأنية التي خص بها المؤلف كتاب "رائعة التراث الشفهي اللامادي للبشرية" للسفير الأممي الإسباني كيتين مونيوث. إذ لم يكتف بعرض محتواه، بل حاوره، وناقشه، واستخلص منه نقاط تقاطع وتباين مع الرواية المحلية. فجاء التحليل مكثفا، ثريا، ومشحونا بدلالات ثقافية وإنسانية، تؤكد أهمية موسم الطنطان كتعبير حي عن التراث الحساني، وكرمز للمقاومة الثقافية في وجه التنميط والعولمة. 
 
إن هذا المؤلَّف لا يضيف فقط إلى رصيد المعرفة الأكاديمية، بل يفتح أفقا جديدا للكتابة عن الجنوب المغربي، كتابة لا تُغيّب العاطفة، ولا تستهين بالعقل، ولا تفصل الإنسان عن مجاله. فالمكان عند أشطوط ليس مجرد جغرافيا، بل كيان حي، ينمو ويتفاعل، يمرض ويقاوم، ويستحق أن يُروى بحبٍّ وصرامة في آن. 
 
في النهاية، "الطنطان: التاريخ–المجال–الإنسان" ليس مجرد كتاب… إنه نداءٌ خافت في برّية المعنى، شهادةُ انتماءٍ عميقة، ورسالةٌ إلى من يهمه أمر الجنوب، بأن لهذه الربوع تاريخا يُروى.