السبت 19 إبريل 2025
سياسة

لحسن العسبي: لم نقطع الوادي وتنشف أقدامنا بعد في ملف صحراءنا الغربية المغربية

لحسن العسبي: لم نقطع الوادي وتنشف أقدامنا بعد في ملف صحراءنا الغربية المغربية ستافان دي ميستورا وفي الإطار لحسن العسبي
في فن الديبلوماسية (وهي من أرقى وأعقد الفنون السياسية)، ممنوع أمور ثلاثة:
ممنوع التسرع
ممنوع الجمود
ممنوعة الثقة
إنه أمام ما بلغته من مستويات اهتمام عالمية قضية وحدتنا الترابية عبر ملف الصحراء الغربية للمغرب (كونها أصبحت أولوية عند القوى العظمى ضمن حسابات جيو - استراتيجية إفريقية ومتوسطية وأطلسية معقدة أقله منذ عشر سنوات)، ضمن ما يمكن وصفه ب "محطة جديدة من محطات الحقيقة" ببعد أممي، فإنه يرجى فعليا أن تكون محطة الحسم النهائية لهذا الملف الحيوي بحسابات القانون الدولي كما تحدده دهاليز مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة قد أزفت أخيرا.
 
ففي مستوى معين يكبر طبيعيا الحذر أكثر، خاصة عند الأمم التي تراكم مراحل تطور إيجابية ضمن معركة عدالة قضيتها كما هو متحقق مع "النضالية المغربية" (دولة ومجتمع) في ملف الصحراء بالتقاطع مع حسابات القوى الفاعلة دوليا. بالتالي مهم تذكير أنفسنا بواجب الحذر من مخاطر خدر "وهم الإنتصار" في معركة مماثلة، مصيرية لنا كأمة وكبلد، تواجهنا فيها دفعة واحدة تحديات كبيرة غير مُيَسِّرَة كما يُرْتَجَى لترسيخ نصرنا التاريخي فيها.
 
واضح أننا دخلنا "مرحلة الحسم" النهائي لهذا الملف الذي طال أكثر من اللازم، الذي يهدد الأمن الشامل بكامل غرب إفريقيا وغرب المتوسط. وأنه في مستويات مماثلة يخرج عادة القبح المضاد في كامل أوصافه وضوحا وخبثا من قبل خصومنا من مختلف الجغرافيات. بالتالي علينا توقع فخاخ كثيرة وماكرة في الأمتار الأخيرة للحل النهائي المرتقب. وأول ما علينا مراقبته بصرامة كاملة هو المبعوث الأممي الجديد السيد ديميستورا الذي له خلفيته القانونية الخاصة كثقافة سياسية يؤطرها توجه ذي مرجعية تحكُمُ بالقطائع في الأحكام من منطلق التصنيف المسبق للبلدان والشعوب (فيها عناصر ثاوية لأعراض ثقافة تياسرية متجاوزة). مما يجعل قلب الرجل ليس معنا كأمة وكبلد، القلب الذي تفضحه بعض التفاصيل الصغيرة في تركيب جمل ليست عابرة.. بل إنه بتعبير مثلنا الشعبي المغربي فهو من النوع "للي يخاف ما يحشم"، بكل ما يستوجبه ذلك من صرامة تعامل معه، عبر تذكيره بالحدود المؤسساتية لمهمته المؤطرة بآليات قانونية واضحة.
 
مؤكدٌ أن أوراق المغرب لها وزنها بحجم مستوى الملف ضمن حسابات الكبار بمنطقتنا الشمال إفريقية والغرب متوسطية والأطلسية الإفريقية. أوراق تتقاطع بمنطق مصالح الدول بين من جهة حسابات تنموية جديدة بأبعاد فوق قارية، مندرجة ضمن منظومة الاقتصاد العالمي في أفق الخمسين سنة القادمة بكامل غرب إفريقيا من مضيق جبل طارق حتى خليج غينيا، ومن جهة أخرى إعادة ترتيب أمنية شمولية لكامل الفضاء الأطلسي عبر مداخل حيوية هي الفضاء المتوسطي أروبيا والفضاء الإفريقي عبر بحر رمال منطقة الساحل. وليس اعتباطا كل هذا التدافع الجهنمي (لكن الصامت غير المعلن) بالمنطقة بين سيوف روسيا والصين وأمريكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وإسرائيل وخلفهم بعض من نبال تركيا وخناجر إيران.
 
هنا كما يقال عندنا "اللعب كبير"..
لكن المشكل للأسف هي أن سياسة جيراننا لا تزال تصر أن "تلعب صغير" (حتى لا نتهمها ربما ظلما أنها أصلا مكلفة بذلك بالتحديد).. لأنه علينا الاعتراف أن أصل الكثير من مشاكل منطقتنا كامن في غياب "الذكاء المصلحي مغاربيا". ولعل المؤسف أكثر هو أنه لا شيء يمكن انتظاره إيجابيا في هذا الإطار في القادم من الشهور، لأن "العقل السياسي" بمركز صناعة القرار بالجزائر يخونه ذكاء الإنتصار على أعطاب الذات والتأسيس لربح المستقبل بمنطق التكامل والتعاون وفن الممكن وليس بحسابات "الهيمنة" التي تكون كارثية حين تحكمها "أعراض أزمة هوية" لها شجرة أنسابها في تراكم امتحانات التاريخ الحديث للناس والبلد هناك.
 
لا يمكن إغفال أن من أهم أوراق المغرب (أقله منذ سنة 1994) دخوله في مسلسل إصلاحي تراكمي حقق مكاسب ميدانية في مجالات، على قدر ما أبرز هشاشة جد مقلقة في مجالات أخرى. وأن منطق ذلك القرار الإصلاحي يستمد قوته من تصالحه البين والواضح مع "دفتر تحملات" نظام السوق العالمية ما بعد نهاية الحرب الباردة. الأمر الذي سمح بتجسير آليات التطوير المؤسساتية والتنموية مغربيا مع مداخل منظومة الإنتاج العالمية المؤطرة ضمن سياسة "معاهدة التجارية العالمية" ما بعد "منظومة الغات" (التي ليس اعتباطا أن احتضنت مراكش ذات سنة مؤتمره العام التأسيسي). الأمر الذي جعل المغرب من ضمن فضائه الإفريقي والمتوسطي موضوع رهان جدي ضمن حسابات اقتصادية وأمنية وعسكرية للعواصم العالمية الكبرى. وأنه نجح في أن يتحول إلى مدخل ثقة ضمن فضائه المركب متوسطيا وإفريقيا وأطلسيا لتلك الحسابات بأفق تحديات عالم القرن 21.
 
هنا الزاوية الصلبة للأوراق المغربية فيما يرتبط بحماية وحدته الترابية التي هي مندرجة ضمن أفق رؤية استراتيجية بمنطق الدولة. وهو ما يجب الحرص على المحافظة عليه وتعزيزه، الذي أخطر ما يشوش عليه اليوم هو مستوى الهشاشة المقلقة ببلادنا لشكل صناعة وتأطير "الإنسان" بالمغرب على مستوى منظومة القيم وعلى مستوى أشكال الخدمات الحيوية الحاسمة في مجالات مثل منظومة التعليم ومنظومة الصحة التي هي قطاعات استراتيجية ضمن الأمن القومي للبلدان (سلامة العقل وسلامة البدن). نعم علينا الإقرار أنه ما لم نحسم بقرار وطني استراتيجي في مسألة الحاجة إلى نظام تعليمي جديد ونظام صحي جديد وآلية صلبة لتجفيف أسباب الفساد سنظل نواجه رياحا معطلة لمشروعنا الوطني الإصلاحي المنطلق منذ نهاية التسعينات. المشروع الإصلاحي الذي من واجبنا عدم نسيان أنه الآلية التي جسرت إيجابيا شكل علاقتنا كبلد (دولة ومجتمع) مع النظام العالمي بالمستوى الصغير الخاص بنا حجما وقيمة ضمن اصطخاب حسابات الكبار.
 
ولأن الشئ بالشئ يذكر، فإن كوريا الجنوبية والفيتنام وسنغافورة (كمثال مقارن)، بصغر حجم مستواها كبلدان مثلنا، قد نجحت في أن تصبح أرقاما محورية ضمن معادلات تنموية وأمنية واقتصادية عالمية، لأنها نجحت في أن تخلق لنفسها مكانة ضمن حسابات أكبر على المستوى الآسيوي في الإمتداد الصيني والإمتداد الياباني والإمتداد الأسترالي وأكيد الإمتداد الأمريكي. فيما نحن قدرنا أن نواصل النجاح في جعل الورقة المغربية رقما محوريا بمستوانا الصغير (كإمكانيات) ضمن الإمتداد المتوسطي أروبيا والإمتداد الإفريقي جنوبا والإمتداد الأطلسي أمريكيا. وأنه في غياب أفق رؤية مغاربية عبر البوابة الجزائرية لذات الأفق الضاغط للعلاقات الدولية مصالحيا، لا يمكننا البقاء في قاعة الإنتظار حتى يتحقق "التعقل السياسي" عند جيراننا. فالدول تشتغل بالممكن المسنود بالمتوفر في اليد.
 
علينا أن نقر أيضا (ضمن ذات منطق المثال المقارن) أن نجاح المشروع الوطني الإصلاحي في كوريا الجنوبية والفيتنام وسنغافورة خلال الثلاثين سنة الماضية، قد امتلك عناصر تأثير وازنة لأنها بلدان بحكومات استثمرت في الإنسان تعليميا وصحيا وعززت من الترسانة الضبطية للقضاء كآلية رقابية لتقليم الفساد (هي المدركة أن الفساد مرتبط بالإنسان كإنسان ثقافيا وسلوكيا وهو قائم في كل بلدان العالم، لكن الفرق بين الدول هو في مستوى النجاح لتقليم ذلك الفساد وجعله محصورا ضمن مجال ضيق متحكم فيه بصرامة).
 
نعم علينا تعزيز علاقاتنا الإستراتيجية مع القوى العالمية بمنطق ذكاء المصلحة (واشنطن، مدريد، باريس، بكين، برلين، موسكو ولندن)، لكن سندنا الأصلب سيكون هو توسيع أسباب الرهان علينا كبلد من مدخل الإصلاح. أي أن قوتنا الداخلية هي أرضيتنا الصلبة الحاسمة لتحقيق نصرنا الديبلوماسي التحرري التاريخي كأمة ضمن صيرورة معركتنا الوطنية المفتوحة منذ سنة 1907، تاريخ توزع أراضينا بين قوى استعمارية أروبية ودولية متعددة.
 
بالتالي، نعم نحن أمام محطة جديدة بتطور إيجابي (إقناع القوى العالمية بتبني طرح الحل السياسي المقترح من بلدنا المتمثل في حكم ذاتي ضمن سيادة مغربية كاملة لا تنازل عليها مهما كلف ذلك من ثمن)، لكنها مؤطرة ضمن صيرورة أكبر لمشروع وطني إصلاحي للمغرب. وأن آلية الحكم الذاتي كآلية ديمقراطية فضلى هي جزء من إعادة هيكلة شمولية لإعداد التراب ببلادنا تراهن بقوة النص الدستوري على تعزيز خيار الجهوية بالمغرب بذات الشكل المتحقق في ديمقراطيات كبرى بالعالم (النموذج الألماني والنموذج الإسباني وحتى النموذج الأمريكي). مما يجعلنا ننجح في إقناع العالم (وهذه معركة تواصلية لا نحسنها مغربيا للأسف، لأننا مثل من له بضاعة جيدة لكنها لا يفلح في حسن تسويقها وهنا فشلنا الوطني الكلي في تحقيق انتقال إعلامي منتج)، أننا كبلد وكأمة لسنا في تنازع هيمنة إقليمية بمنطقتنا المغاربية مع جيراننا شرقا وجنوبا، بل نحن منتصرون بقرار سيادي لتوجه إصلاحي تكاملي سلمي تراكمي بناء.
 
تلك معركتنا الكبرى، التي علينا ألا نحيد عنها أو يلهينا عنها البعض لهذا الحساب أو ذاك.
إن البوصلة واضحة واليد على المقود يجب أن تبقى صلبة. وكل الأمل أن الخير أمام.