"الاعتراف بقيمة العمل المنزلي واحتسابه في حالات الطلاق – تجارب مقارنة"
تطرح هذه الدراسة إشكالية محورية تتجاوز مجرد الاعتراف الرمزي بالجهد غير المؤدى عنه الذي تبذله الزوجة داخل بيت الزوجية، لتلامس عمق البنية الفلسفية والاجتماعية والقانونية لمؤسسة الزواج. وإذا كانت بعض التجارب المقارنة تسعى إلى تصحيح اختلالات واقعية تتعلق بالعدالة الزوجية، فإن من الضروري التنبيه إلى خطورة استيراد نماذج قانونية جاهزة دون استحضار السياق القيمي والديني الذي يؤطر مؤسسة الزواج في مجتمعاتنا الإسلامية.
فهل أصبحنا اليوم أمام تحول جذري في النظرة إلى مؤسسة الأسرة من كونها نواة روحية واجتماعية إلى مجرد وحدة إنتاجية؟ وهل غدا الزوج "رب عمل" لا "رب أسرة"، والزوجة "عاملة منزلية" بعقد ضمني لا "شريكة حياة" بعهد ميثاقي؟ وهل سنصنف الأبناء ضمن فئة "مساعدين عائليين" يخضعون لنظام هرمي إداري بدل علاقة الرحمة والمودة؟ إن مثل هذا التصور يفرغ مؤسسة الزواج من بعدها الإنساني والديني، ويحولها إلى علاقة تعاقدية محضة تخضع لمنطق السوق بدل منطق القيم.
إن الحديث عن احتساب قيمة العمل المنزلي غير المؤدى عنه، وما يترتب عليه من تعويضات في حال الطلاق، يفتح الباب أمام إعادة توصيف "بيت الزوجية" ــ الذي يفترض أن يكون فضاء للعلاقات الإنسانية والمودة والرحمة ــ ليصبح أشبه بـ "مكان شغل" تنتظم داخله المهام بمفهوم تقني صرف : عمل، أجور، مردودية، تعويضات، حقوق مادية.
وهنا تطرح أسئلة مقلقة : هل نحن أمام تحول مفاهيمي جذري يجعل من بيت الزوجية مؤسسة إنتاجية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يستتبع هذا التحول إخضاعه لقواعد المعاملات التجارية؟ هل يجب إذن، من باب الانسجام المنطقي، تسجيل هذا "البيت" في السجلات التجارية كأي نشاط اقتصادي، وتحديد طبيعة العلاقة التعاقدية التي تحكم الأطراف داخله وفق قانون الشغل؟
وما مدى مشروعية هذا التوجه في ضوء الخصوصية الدينية والاجتماعية للزواج؟ أليس في هذا المسار نوع من التأميم القسري للعلاقات الخاصة، حيث تفرغ العلاقات الزوجية من بعدها القيمي والديني، وتحشر قسرا ضمن منطق بيروقراطي رقمي، يخضع لإشراف إداري ومؤسساتي بارد، لا يراعي الفوارق الوجدانية والدينية والثقافية التي تقوم عليها الأسرة في مجتمعاتنا؟
إننا إذ نتابع هذا المنحى، فإننا لا نعترض على مبدأ العدالة، بل نحذر من آليات تنزيلها التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية، حين تدار القضايا الأسرية بالمنطق نفسه الذي تدار به المعامل والمقاولات. وهو ما يستدعي عودة عاجلة لصوت الفقهاء، وعلماء الاجتماع، والمختصين في قضايا الأسرة، ليكونوا في صلب النقاش، لا على هامشه.
إن محاولة تعديل أو "تطوير" مؤسسة الزواج من خلال تبني نموذج قانوني لا يأخذ بعين الاعتبار الجذور الثقافية والدينية للمجتمع، قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي. إذ إذا حوِّل بيت الزوجية من فضاء يرتكز على القيم الإنسانية والمودة إلى نظام يدار بمفاهيم العدالة الفردية البحتة، فإن ذلك ينطوي على عدة تحديات :
فقد يفضي هذا التلاعب إلى انفصال النصوص القانونية عن الواقع الاجتماعي، مما يخلق فجوة بين الإطار المصاغ نظريا والاحتياجات الحقيقية للأسر والمجتمع. ففي حين تعنى العدالة الفردية بحماية حقوق الأطراف، فإن التجاهل التام للثوابت الاجتماعية والقيم التاريخية يضعف الروابط التي تشكل نسيج المجتمع، وقد يترتب عليه أزمات اجتماعية غير مسبوقة تتمثل في تفكك العلاقات الأسرية وتغير هوياتها وبداية ظواهر اجتماعية جديدة نحن في عنى عنها.
وفي الوقت نفسه، يطرح تساؤل نقدي حول قدرة الأمة ذات الإرث التشريعي والعلمي العريق على إنتاج نماذج قانونية تناسب خصوصيتها، بدلا من استيراد نماذج خارجية قد لا تنسجم مع واقعها الاجتماعي والثقافي. هذا المسار لا يهدف إلى رفض حماية الحقوق، بل يؤكد على ضرورة إيجاد توازن دقيق بين العدالة الفردية ومتطلبات الثوابت الاجتماعية والقيم التي بني عليها نظام الأسرة المغربية على الخصوص.
وهكذا، يصبح من الجلي أن التحدي يكمن في اعتماد آليات قانونية تراعي الخصوصية المجتمعية والتراث الفكري، بحيث يظل الزواج مؤسسة إنسانية ترتكز على مبادئ الرحمة والمودة، دون أن يتحول إلى مجرد معاملة تجارية تخضع لإجراءات بيروقراطية تقيد العلاقات الشخصية الحميمة.
أين أهل الفقه والفكر والتشريع الذين يجمعون بين عمق النظر في النصوص الشرعية، وفهم دقيق لتعقيدات الواقع الاجتماعي؟ إنهم موجودون، لكن صوتهم بات خافتا أمام ضجيج مقاربات قانونية مستوردة، تفرض نفسها بقوة المؤسسات والإعلام، لا بقوة الحجة ولا بحس الانتماء. لقد صار التشريع في بعض مجالاته يميل إلى الحرفية الجامدة، يغفل روح النص ومقصده، ويستبدل الحكمة بالتقنية، والميزان الشرعي بالمادة القانونية الجافة.
في هذا السياق؛ تختزل مؤسسة الزواج إلى بنية تعاقدية قابلة للتعديل والتجريب، تخضع لعقليات تنظيرية لا ترى فيها إلا علاقة تبادلية قابلة للقياس والتقنين، بينما هي في أصلها ميثاق غليظ، ومجال لصون الكرامة وتحقيق السكن والرحمة. ليست الأسرة ساحة للتجريب القانوني، ولا حقل اختبار لنماذج جاهزة نزعت من بيئات مختلفة، ثم فرضت دون اعتبار لخصوصيات الأمة ولا لثوابتها. إن المساس بالبنية المعنوية للزواج لا يهدد الأسرة فحسب، بل يفتح الباب لتفكك مجتمعي أوسع، وينذر بانهيار منظومة القيم التي لطالما شكلت أساس الاستقرار والهوية.
ياسيــن كحلـي/ مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية