الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد خير: وطن الراقص فوق الدبابة

محمد خير: وطن الراقص فوق الدبابة

يبدأ إشكال الإسلام السياسي في أنه يخلق تعارضاً بين أمرين لا تعارض بينهما: الدين والوطن.

لا يحمل المرء في قلبه دينَين معاً، وهو، حتى إن حمل جوازيّ سفر فإن "الانتماء" قد يبقى معلقاً نحو الوطن الأصل إن كان المنتمي مهاجراً منه، أو وطن المهجر لو ولد الأبناء فيه ولم يعرفوا غيره.

لا يكون المرء إذاً، مسلماً وبوذياً في آن، بل ربما يكون مسلماً مصرياً، أو عراقياً مسيحياً، وهكذا.. لكن سؤال الإٍسلام السياسيّ يلحّ بإصرار، وأكثر من أي "أممية": أي الأمرين يتقدمّ على الآخر؟ نصرة الدين أم نصرة الوطن؟ وعلى وجه أدق، يطلب الإٍسلام السياسي أن يقيم الوطن في الدين، فيكون الإسلام هو الدين والوطن معاً، بمجموعهما تتكون "الهويّة"، ومنهما تنطلق أو تتأسس "الدولة".

في الفيديو الذي بثه مؤخراً تنظيم أنصار بيت المقدس، الذي ينشط في سيناء وبايع خليفة "الدولة الإسلامية"، يظهر هجوم التنظيم على كمين "كرم القواديس" شمالي سيناء، وهي المذبحة التي قتل فيها التنظيم 35 من المجندين والضباط  في الجيش المصري. ورغم الدماء ومشاهد الترويع التي ملأت الفيديو، إلا أن مشهداً أثار، أكثر من غيره، الاهتمام والغضب، يصعد فيه أحد الملثمين على سطح دبابة مصرية، ويحتفل رافعاً العلم الأسود للتنظيم.

ويصعب، على غير العين الإسلامية السلفية أو الباحثة المتخصصة، أن تفرّق بين أعلام التنظيمات الإسلامية المتعددة، إذ أنه كله لا يعتمد فقط رسم الشهادتين، بل يعتمد رسمها بالأبيض على الخلفية السوداء، وهو العلم الذي يُظنّ أنه كان راية النبوة في الحروب، كما يُظنّ أن الوسم الدائري للنصف الثاني من الشهادة "محمد رسول الله" هو ختم النبوة نفسه. أيًا كان.. فقد أثار فيديو آخر من قبل، ومن سوريا هذه المرة، كل العجب. إذ يظهر انتصار فصيل إسلامي ما، على الآخر، وعلى إثره يتقدم مقاتل لينتزع راية الفريق المهزوم، وهي شهادة أن "لا إله إلى الله محمد رسول الله"، ويزرع مكانها راية الفريق المنتصر، التي تحمل الشهادة نفسها.

تطابق الرايات أو شبه تطابقها ليس مستغرباً. فكل تلك التنظيمات، من "القاعدة" إلى "الدولة" هي "الإسلام" بـ "أل التعريف"، وجميعها يقاتل بالأساس مسلمين يسمّيهم مرتدين هنا أو روافض هناك، وهي في قتالها "الإسلامي" ذاك، قاتلة وقتيلة، تحتاج إلى لصق رايتها، أي نفسها، إلى أقصى حد ممكن، برمز الإسلام ذاته وركنه الركين المتمثل في الشهادتين، لا أٌقل.

لكنها هذه المرة، في طبعتها الداعشية، لا تكتفي بخلق التعارض الأيديولوجي بين الدين والوطن، وإنما بالهدم الواقعي لحدود (سايكس بيكو) البلدان التي تنشط فيها. وتلجأ، للمرة الأولى، إلى تقديم إجابة عملية على سؤال الدين والوطن. فالدين هنا (ممثلاً في رجال الخلافة) يلغي "الوطن الوطني"، ليقيم "الوطن الديني" على الأرض لا في القلب فحسب. فينشئ "دولة" لا حدود فيها بين الموصل وسيناء، على حد قول الفيديو الأخير لأنصار بيت المقدس في سيناء. دولة تفعل ككل وطن جديد: تدعو إلى "الهجرة" إليها، لكنها تتصرف أيضا كالكيانات الاستعمارية: لا تتوقف عن "التمدد".

قد تستطيع "الدولة" الإسلامية  في اندفاعتها أن تحوز الأراضي الواسعة، لكن سرعان ما ستكتشف، حين يبدأ الهجوم الارتدادي من "الأعداء" وتستشري مشكلات "السكان"،  أن مفهوم "الدولة" يعني أكثر من مقاتلين مندفعين في الصحراء. أما مفهوم "الوطن" فأكبر كثيراً من راقص ملثم فوق دبابة محطمة.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)