الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد خير: دين وتحرش

محمد خير: دين وتحرش

في أحد عروضه الساخرة، اقترح الكوميدي الأميركي الراحل، جورج كارلين، حلاً جذرياً لمشكلة التحرش الجنسي، ويتمثل في أن يتم تجريم الدين. هكذا، يقول كارلين، ستكبر الأجيال الجديدة في عالم لا ديني، سيكون خالياً بالضرورة من التحرش والاعتداء الجنسي، لكن مشكلة هذا الحل، بحسب الأميركي الساخر، أنه يستغرق وقتاً أطول من اللازم.

بسبب الطبيعة الكوميدية للعرض، لم يشرح كارلين بالتفصيل سبب الربط الطردي  بين التحرش الجنسي والدين، وإنما قفز سريعاً إلى موضوعات أخرى. لكن العلاقة بين الأمرين، قفزت إلى الضوء سريعاً، خلال الأسبوعين الماضيين. فبعدما أقدمت ممثلة وناشطة أميركية على تصوير فيديو يوضح ما يزيد على مئة تحرش لفظي تعرضت له خلال عشر ساعات من المشي في مدينة نيويورك، تلقفت الفيديو صفحة إسلامية غربية شهيرة هيWorld Hijab Dayفي "فايسبوك"، لتصوّر بدورها فيديو آخرلفتاة تمشي في نيويوركلمدة خمس ساعات، وتتعرض كسابقتها إلى تحرشات لفظية، ثم ترتدي تلك الفتاة حجاباً وثوباً "محتشماً" بالمعايير الإسلامية، وتمشي مرة أخرى، خمس ساعات، فلا يظهر في الفيديو أنها تعرضت لأي تحرش أو مضايقات أثناء ارتدائها الحجاب.

بالطبع، يمكن إرجاع الفيديو سريعاً إلى قناعة إسلامية راسخة وشهيرة، تفترض أن لدى المسلمين حلولاً لكثير من مشاكل الغرب "المنحل"، كما تمتلئ الكتب والمنتديات الإسلامية بالقصص المجهّلة لعلماء غربيين أشهروا إسلامهم حين وجدوا حل معضلة علمية ما في آية قرآنية أو حديث نبوي. لكن الحلول "الروحية"  و"الأخلاقية" هي الأكثر هيمنة على وعي المسلمين تجاه الغرب، ومنه ذلك الفيديو المذكور الذي تلقّف مشكلة اجتماعية أثارتها الناشطة الأميركية، ليقول للأميركيات بصورة شبه مباشرة أن "الحجاب هو الحل".

وحتى بفرض صحة ودقة فيديو "الفتاة المحجبة"، ومع تجاوز أن أصحابه -من دون أن ينتبهوا- قد أزاحوا اللوم عن المتحرشين ليلقوا بمسؤولية التحرش على الضحية وملابسها، وذلك شأن في الغرب عظيم.. فإن ما يهدم منطق الفيديو هو أن التحرش الجنسي شأن شائع جداً في بلاد المسلمين نفسها، حيث الحجاب هو القاعدة لا الاستثناء، كالمحجبة النيويوركية. حتى إن الكتيبات السياحية التي ترشد السائحين إلى مصر، تكاد تذكر التحرشّ الجنسي بالقدر نفسه الذي تذكر فيه الأهرامات. هذا هو الحال في مصر، وهي بلد الأزهر وأحد أهم وأكبر بلدان العالم الإسلامي والصحوة الإسلامية أيضاً. وهذا هو الحال أيضاً في أفغانستان التي لا يمكن لأحد أن "يزايد" على إسلاميتها.

غير أن التحرّش، بوصفه فعل عنف بالأساس، يعود إلى أصله، أي العدوان البحت، في إيران، في الدولة الإسلامية التي تفرض الحجاب رسمياً وبالقانون عبر الشرطة  الرسمية وميليشيا الباسيج، تزايدت في الأسابيع الماضية حوادث اعتداء بمواد كاوية على وجوه النساء الإيرانيات، وتركّز معظم الاعتداءات في أصفهان بوسط إيران، بالتوازي مع إقرار البرلمان مشروع قانون جديد يسمح للمواطنين بالتطوع لتطبيق القوانين الأخلاقية. وبحسب "رويترز"، فقد خرج الآلاف في شوارع أصفهان، والمئات في طهران، احتجاجاً على تخاذل الشرطة التي لم توجه الاتهام إلى أحد. وتحوم الشبهات حول جماعة "أنصار حزب الله" المتشددة وجماعات مثيلة أصغر، تسيّر دوريات في أماكن عدة "لمتابعة الأخلاق والالتزام بالزي الإسلامي"، كما "تتصدي للرجال والنساء غير المتزوجين في الأماكن العامة". وقد اتهمت تلك الجماعات "العدوّ" بتنفيذ الاعتداء بالمواد الكاوية على وجوه النساء "لزعزعة الأمن"!

بين المواد الكاوية الإيرانية، رغم الحجاب المراقب من قبل الشرطة، ووباء التحرش الجنسي الجماعي في مصر، لا يبدو العالم الإسلامي عبر هذين النموذجين الشيعي والسنّي، مكاناً ملائماً للمرأة، سواء كانت محجبة أم لم تكن. لكن، إن كان ذلك يناقض الادعاء في فيديو الفتاة النيويوركية المحجبة، فإنه لا يكفي لتأييد ربط جورج كارلين بين التحرش والدين. ربما يؤيده أكثر أن وباء الاعتداءات الجنسية الجماعية "يزدهر" في أحد أكبر المجتمعات الدينية في العالم رغم نظامه العلماني، ألا وهو مجتمع  الهند. وليس حال المرأة في الديانة الهندوسية، بأفضل من حالها في عالم الديانات الإبراهيمية، بل أسوأ. فزواج البراهما الهندوسي، السائد في الهند، يجبر الأب على البحث عن عريس لابنته، وهي تنتقل من بيت الأب إلى بيت الزوج بعد أن يدفع والدها -لا العريس- المهر أو الهدايا إلى عائلة الزوج. وهي بلا قيمة أو حق في الزواج بعد موت زوجها. وحتى قبل مئتي عام، كانت الزوجة الهندوسية تحرق في محرقة زوجها نفسها إذا توفي قبلها.

تقود تلك الملاحظات إلى أنه كلما كان وضع المرأة متدنياً في الثقافة، وهو وضع يدعمه -أو يسببه- التديّن، كلما ازداد التحرش بوصفه فعل استقواء (أي عنف من طرف أقوى/أعلى ضد طرف أضعف/أقلّ). في المجتمعات المتديّنة، يكون الرجل رأس المرأة ومالكها أو مفتاح جنّتها. وتكون هي نصفه أحياناً وربعه أحياناً أخرى. وهي  خاطئة بطبيعتها أو ضالة أو ناقصة عقل ودين. وهي ضلع الرجل الأعوج وموضع شرفه ورهن ملكيته، ومصدر الشر وإثارة الغرائز والنجاسة. فلا يُستغرب، بعد هذه الوصمات، والتحريض اليومي على "المتبرجات.. المتنمصات ..إلخ"، أن تكون المرأة محل عدوان يومي متواصل، وأن تُحمّل اللوم في كل الأحوال.

وإن كان جورج كارلين قد طالب ساخراً بمنع الدين (الأميركيون هم الأكثر تديناً في الثقافة الغربية - ربما لهذا هم الأكثر تحرّشاً وفقاً لنظرية كارلين)، فإنه ربما كان متأثراً بدول اسكندينافيا، حيث تتجاور نسب الإلحاد واللادينية الأعلى في العالم، مع نسب التحرش الأقل أيضاً، حتى أن الجيش النروجي، بدأ منذ العام الجاري، في تطبيق الاختلاط بين الرجال والنساء داخل الثكنات العسكرية، حيث ينام المجندون والمجندات في الغرفة نفسها، من دون تحرش أو عدوان، ومن دون أن يفصل بينهما أي "حجاب".

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)