الشجيرات
في سنة 1987 ستتم ترقية صاحبنا إلى درجة كولونيل كامل وسيستمر في تحمل المسؤولية في عدد من المواقع ... سيترأس بعد ذلك الفيلق الثاني عشر وسيخوض معارك على مختلف الجبهات وسيشارك في بناء الجدران الأمنية وسيتولى الدفاع عن «كتلة زمور» ثم «تيشلة» حيث سيُرقى إلى درجة «كولونيل ماجور» سيذهب إلى الحج وعند عودته سيعيّن على رأس القطاع العسكري لوادي درعة وهي منطقة ملاصقة للحدود الجزائرية وتتطلب الكثير من اليقظة... ظل كعادته يتنقل بين المواقع والمدن من المحبس إلى الفارسية... من أقا إلى طاطا... من المحاميد إلى تورزكين... خلال هذه المدة ستتم ترقيته إلى مرتبة جنرال سنة 2004. كانت أجوبة حسين مزيرد هادئة وجُمَلُه قصيرة... كثيرا ما كان يتوقف ويستريح وكانت فاطمة تواصل الحديث وتشير عليَّ بإعطائه الوقت لاستعادة الأنفاس.. جاءت «انتصار» بمجموعة أوسمته وعددها 13 وساما... عسكرية ومدنية... فجأة ذكرت والدتها... فأخبرتني الأمازيغية الإدريسية بأنها في زياراتها إلى زوجها... كانت تحمل معها شجريات صغيرة تقوم بغرسها في موقع بئر أنزران وتوصي زوجها أن يسقيها باستمرار... قالت لي... «أتمنى أن أعود لرؤيتها وقد أينعت وحان قطافها... »
وعادت الشريفة الإدريسية للقول بأنه أثناء زياراتها لبئر أنزران كانت تساهم في إعداد الضمادات الطبية ومساعدة الأطفال والعناية بالساكنة... فلم يكن في مقدور زوجها أن يتمتع بعطلة لزيارة أقاربه وتبادل أطراف الحديث مع أصدقائه... كنا نرحل لزيارته وكنا سعداء بذلك... بين الفينة والأخرى كنا نكلمه بواسطة الراديو لنطمئن عليه ونبلغه أحوال الأسرة والأطفال.
الضفضعة والتلفزيون
كان الجنرال يتابع حديثنا ويبدو وكأنه لم يكن في مقدوره أن يتبين ما كنا نتداوله... كان ابنه الأكبر فؤاد يقترب من أذن والده ويخبره بفحوى حديثنا وكان يضع عليه الأسئلة أو يستفسره عن دقائق الأمور... وعاد الجنرال ليحكي قصة وهو يبتسم... قال... «دعوت» رئيس المينورسو لزيارتي وأكرمته فدعاني لزيارته... كان من أصول آسيوية ولما استضافني هيأ ضفضعة لغدائي فاندهشت وقلت له شكرا على كرمك ... ولم أتناول ما قدمه لي... وضحكنا جميعا...» ولأول مرة ضحك الجنرال.
وأضاف... كنت أتابع الأخبار المتلفزة من موقع بئر أنزران... كما تابعت بعض البرامج التي كنت تقدمها».. وأخبرني أن الحسن الثاني للحد من العزلة التي كان يعيشها الجنود وضع عددا من البارابولات العملاقة لالتقاط الصور عبر الأقمار الاصطناعية مما خفف من ضغط الفراغ وجعل الجنود وهم في مواقعهم يتابعون الأحداث ويرتاحون للأفلام والمسلسلات كان الجنود يجتمعون ويهيئون «الطنجية» في أجواء مريحة وهم يستأنسون ببرامج التلفزة.
كرماء وشجعان
دعاني إلى غرفة مجاورة فيها مائدة مستديرة مليئة بأكلات مختلفة ... أود الاعتراف بأن ما كان معروضا يعكس ذوقاً جميلا وبراعة في تنظيم وطهي الطعام ... كنا قد انتهينا بعد ثلاث ساعات من الحوار... وعندما استأذنت للمغادرة جاءت حنان البنت الكبرى للجنرال ووضعت على كتفي سلهاماً هدية من الحاج الحسين مزیرد... هم هكذا أهل مرموشة أوفياء وكرماء وشجعان.
غادرت شاكرا حفاوة الاستقبال مهنئا العائلة على عنايتها بالجنرال ومتابعة وضعيته الصحية... كان على أن أغادر فيلا «النصر» وأن أمر عبر شارع «بئر أنزران» لمغادرة مكناس... طلبت من السائق عدم السرعة... كان الليل قد أرْخَى سدوله... رن هاتفي وتلقيت رسالة من «انتصار»... قالت... «تشكرك أسرة لمزيرد على زيارتك واهتمامك... إنه شرف وسرور لتقاسمنا هذا اللقاء... سنكون فرحين أن نراك»... فوراً أجبتها... «شكرا على لطفكم وكرمكم... لقد تشرفت بلقاء والدكم بطل الصحراء... حفظكم الله... عبارات الصداقة لوالدتكم وشكرا للا انتصار».
كانت الأجواء باردة وقطرات مطر يتيمة بين الفينة والأخرى... أضواء السيارات مزعجة والحركة لا تتوقف في هذا الليل البارد... شعرت بارتياح كبير لأنني قمتُ بالواجب حيال جندي مغربي وضابط سامي... كنت على يقين أن مثله كثيرون في قواتنا المسلحة الملكية... هم رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مِّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا».
غدا العيد
عادت بي الذكريات إلى لقاء صحافي نظمه الحسن الثاني مباشرة بعد انتصار «بئر أنزران»... أذكر أنه جرى في إحدى قاعات القصر الملكي بالرباط... حضرته وسجلت بعض الملاحظات... كان الملك أنيقاً وهادئاً... كان من بين مستجوبيه صحافيون فرنسيون... بول بالطا... بول ناهون... إدوارد سابليي... قال لهم الملك... «انتصارنا في بئر أنزران... انتصار كبير قلب كل الموازين... العدو فَقَد حوالي ألف وخمسمائة قتيل وجريح... وجنودنا أبانوا عن قوة قتالية هائلة».
وخلال الحديث وضع أحد المخازنية ورقة أمام الملك قرأ فحواها وابتسم وفي نهاية المقابلة قال للصحافيين... «أعطيكم سبقا صحافيا... غدا العيد» وكان يقصد به عيد الفطر...
وكانت عدة قنوات تلفزية قد زارت بئر أنزران... وأنجزت عدة ربورتاجات وأمامي الشريط الذي أنجزته قناة فرنسية استجوبت القائد حسين مزيرد في عين المكان. لقد كان يجيب بدقة وهدوء واختصار... قال لهم... «قمت بواجبي وكفى... ».