يعرف المؤرخون والاقتصاديون وعلماء العمران والمجتمعات أن القيم العليا التي أفرزتها التجارب الإنسانية لا تصمد أمام الجهل، والعنف، والرغبة في السيطرة على الغنائم، أو ما نسميه في زماننا بالثروات الطبيعية من حديد وذهب، ونحاس ومواد غذائية، وكل مصدر للطاقة. صنعت الدول، التي انتصرت على النازية، أيديولوجية وأساليب لتدبير الاقتصاد، وقالت إنها الأفضل بالنسبة للإنسانية جمعاء. وهكذا اقتنعت كثير من الدول والجماعات والطبقات بقانون سمي بقانون العرض والطلب. وأصبحت السوق "يدًا خفية" تدير علاقات بين بني الإنسان حسب "آدم سميث". ولكن هذا القانون لا يحتمل غياب آليات العنف التي يشرعنها أصحاب الفكر السياسي والديني والأيديولوجي. يرفع الستار على بناء متكامل بمؤسساته الاقتصادية، وأساليب تؤطر التجارة العالمية، وأنظمة قانونية تصنع قواعد بيئية وتؤطر حقوق العمال وتسهر على احترام شرعة المنافسة. وهكذا اكتمل البناء مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة بكافة فروعها، والمنظمة العالمية للتجارة وغيرها من المؤسسات. وتظل هذه المؤسسات والقوانين مواكبة لكل أشكال العنف ضد جزء كبير من العالم. تعددت الشركات العابرة للقارات وأصبحت لها كل أساليب السيطرة السياسية والعسكرية وصنع كل القرارات.
تم صنع الكراسي وفضاء العروض، واجتهد أصحاب القوة والمصالح في حماية جزء مهم في منظومة التدبير وهو مؤسسة "الكواليس". اتفق موليير وشيكسبير وتولستوي وهيتشكوك وغيرهم من أساتذة صناعة المشاهد على ضرورة تقديس الكواليس. وللكواليس أسرار لا يجب أن تصل إلى الجالس أمام ما يجري على خشبة المسرح من أحداث. القرار يتخذ في الكواليس، ويتم التخفيف من آثاره المؤكدة حين يصل الزمن المسرحي إلى ضرورة تبرير المشهد. وقرر صانع الألعاب والقرارات تدمير الكواليس، وتمزيق الأقنعة والصدح بقوة أنه الأقوى والقادر على دفن القانون الدولي وكل المبادئ وإعلاء مصالحه إلى مرتبة التقديس. ويؤكد رئيس الولايات المتحدة الجديد على أن أسمى القوانين هو قانون الغاب المؤسس الرسمي والتاريخي للعنف.
لم تكن الأحداث التاريخية تعتبر العلاقة مع الفن إلا من خلال تسخيره لخدمة خطاب رسمي. ولم تسلم أرقى الفنون من سلطة حزب أو مافيا أو سلطان. شهدت الحرب الباردة، بعد بناء حائط برلين، مواجهات شملت السينما والمسرح ورقص الباليه، وشملت كتابة التاريخ وكافة الأشكال الأدبية والفلسفية.
كان هذا في مرحلة تاريخية حاولت تجاوز الدمار. حدث هذا في وقت قرر فيه بعض العقلاء بناء صرح على أسس قوامها توافق حول قيم إنسانية "نبيلة". كبر حلم الكثيرين وتصوروا أن العالم قد تعلم بعد فترة دمار، أو فترات دمار تتكرر. نعيش كبشر، ولا يوجد أي تعريف للبشر لحد الآن، على إيقاع عبور من نزوات هدامة إلى أخرى تتسع خلالها الهوة بين العدالة والجهالة، وبين الإنسان وكل قوى الشر.
أخذ رئيس الولايات المتحدة قلما، وما أدراك والقلم، فتوجهت إلى حركات يده، الماسكة بالقلم، كاميرات العالم. أصبح العالم على علم بتوقيعه المفتعل على قرارات تهم العالم أجمع. تخيلت للحظة أنه قرر أن يقدم نفسه كرب لهذا العالم. تأكدت أنه لا يعير أي احترام للإنسانية جمعاء. تبين لي أن الممسك بالقلم، طاعن في السن، ويمكنه التوقيع عن كل قرار يزيد قوة غروره، ولو تعلق الأمر بمسح كل الحدود الجغرافية والاستيلاء على العالم.
يمكنه أن يمضي أربع سنوات في الإمضاء على ضم مكونات المنظومة الشمسية، وعلى صنع دول على مقاس مستوى وعيه. ويمكنه تهديد كل دول العالم. ولكنه يعلم أن تهديده تقابله دول كبيرة جدا، وقد تكون عاقلة جدا، ولها من القدرات ما يردعه ألف مرة. وجاء رد الفعل من سياسيي الولايات المتحدة في الحزبين الديمقراطي والجمهوري. هم يعرفون أن الدمار موضوع كبير وشامل ويخضع لسلطة القرار لدى الكثير من الدول.
وللتذكير، وجب القول أن الكثير من مكونات خريطة البشر على الأرض صنعها من صنعوا بدعة الاستعمار. تم تنظيم حملات للتطهير العرقي في أمريكا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا. وتم بعدها إبعاد مجرمي بريطانيا وبعض دول أوروبا إلى المستعمرات، فكانت بداية عملية التطهير العرقي. وأصبح عتاة قطاع الطرق البحرية في أمريكا أصحاب بنوك ومؤسسات مالية. وأصبحوا يؤثرون على بريطانيا إلى أن تمكنوا من السيطرة على التراب والسلطة. وهكذا بين ترامب أن الرجوع إلى الأصل هو الأصل. لم يعد بالإمكان قرصنة البوارج والسفن التجارية. وهنا قال ترامب بطريقة أجداده أنه سيأخذ أموال الخليج وأوروبا وبنما والمكسيك. عالم قانون الغاب يقترب من صنع البراكين ليعاقب عن سوء التعامل مع الطبيعة والبشر وكل القيم.
ويظل الأمل في تغيير هذا الوضع قائما. تناقضات المصالح تعدت حدود المواجهة بين دول صناعية كبرى وأخرى فقيرة أو في طريق النمو. ظهرت التناقضات داخل الدول الكبرى وبدأت آثارها على الاقتصاد وأسواق المالية جلية، ووصلت خسائر البورصات إلى مئات الملايير من الدولارات. والقادم أسوأ. كندا تتأهب لمواجهة ترامب بأسلحة اقتصادية فتاكة، وأوروبا سترد على الحرب ضد صادراتها. وتظل الصين، وكثير من نمور آسيا، تشكل أقوى المواجهين لترامب. وتكفي الإشارة إلى أن دين الصين على بلاد العم سام يتجاوز 880 مليار دولار. الطريق إلى تفجير المنظومة الاقتصادية العالمية أصبح شبه مفتوح أمام حُمق من تولّوا المسؤولية أمر القرار في الغرب.