أربعة أسباب تحكمت في اختياري لهذا المكان بشارع وساحة Belsunce بمدينة مارسيليا (جنوب فرنسا) لالتقاط الصورة مساء الثلاثاء 28 يناير 2025:
أولا: هذا الشارع الربط بين الميناء القديم والأحياء الجديدة بجوار قوس النصر (La porte d Aix)، الذي كان حكرا على النبلاء وكبار القوم بمدينة مارسيليا منذ النصف الثاني من القرن 17، أصبح اليوم ( في القرن 21) إمارة خاصة بتجار الكوكاكيين والقرقوبي وعصابات القتل المأجور. وبدل نبلاء الأمس، أصبح يتسيد في الشارع زعماء العصابات والمدمنون والمتسولون والمتشردون.
ثانيا: هذا الشارع والساحة الكبرى ، تحملان اسما واحدا، نسبة للراهب Henri François Xavier Belsunce، وفاء للدور الذي لعبه هذا الراهب الفرنسي في مد يد العون والمساعدة لسكان مارسيليا حين ضربها وباء الطاعون سنة 1720. وتشاء الصدف أن هذا الشارع والساحة تعاني اليوم في القرن 21، من طاعون أفظع، ألا وهو التمرد ضد قوات الأمن، لدرجة أن الشرطة الفرنسية لم تعد تقوى على التدخل بهذا الحوض الحضري ( وكذا بالأحياء الفقيرة الموجودة شمال المدينة)، خوفا على سلامة أفرادها. لدرجة أن أشهر مؤسسة جامعية بجنوب فرنسا، وهي كلية Colbert، القريبة من الموقع، أجبرت على إغلاق أبوابها في خريف 2023 بسبب سيطرة العصابات بمحيط الأزقة بالحي المذكور، وتنامي تصفية الحسابات والاعتداء على السياح والمارة لسرقة محتوياتهم، مما اضطر معه عميد الكلية Bruno Decruse( وبإذن من رئيس الجامعة)، إلى اعتماد الدراسة عن بعد لجميع الطلبة على امتداد فصلي الخريف والشتاء في العام المذكور.
ثالثا: في هذه الساحة، تم عام 1792 ولأول مرة غناء النشيد الوطني الفرنسي La marseillaise الذي ألفه Rogert De Lisle في نفس السنة، كرمز لفرنسا الجديدة بعد قيام ثورة 1789. واليوم في 2025 يتم في هذا الساحة تمزيق وتمريغ كل ما يرمز لجمهورية فرنسا في الوحل، تعلق الأمر بالنشيد الوطني أو العلم الوطني الفرنسي.
وهي الوضعية التي تفاقمت بسبب تنامي الفقر بالمدينة ( رسميا ربع السكان يعيشون في فقر مدقع، أغلبهم من الأرمن والجزائريين وجزر القمر)، لدرجة أن Olivier leurent، رئيس محكمة مارسيليا، و Nicolas Besson، ممثل النيابة بذات المحكمة، أطلقا صرخة في وجه مجلس الشيوخ الفرنسي في مارس 2024، محذرين نواب الأمة الفرنسية من كون "الوضع لم يعد يطاق بهذه المدينة"، وحملا مجلس الشيوخ "الممثل الشرعي للمدن والجماعات بفرنسا"، مسؤولية ضعف تخصيص الموارد المالية والبشرية لتستعيد الأجهزة العمومية السيطرة على مارسيليا.
إجماع المهتمين ووسائل الإعلام الأجنبية على وصف مارسيليا بكونها عاصمة المافيا والإجرام والقتل والخطف باستعمال العنف بفرنسا، ليس تحاملا، بقدر ما تعضده المعطيات والأرقام الرسمية.
ففي آخر تقرير لوزارة الداخلية الفرنسية الصادر في مارس 2024، تم تصنيف مارسيليا ضمن المدن العشر الأكثر سوءا من الناحية الأمنية في فرنسا. وحسبي الاستشهاد ببعض المؤشرات :
* اعتقلت السلطات الفرنسية في عام 2023 حوالي 40 ألف فرد يتاجرون بالمخدرات، أي ما يمثل 4،5% من سكان مارسيليا. بل بينت الإحصائيات أن تجارة المخدرات بهذه المدينة ارتفعت بنسبة 327% بين 2016 و2023.
* ارتفاع السرقات بنسبة 19،4% في ظرف سنة
* ارتفاع الاعتداء على المواطنين بالعنف بنسبة 54،9%.
* ارتفاع سرقة السيارات بنسبة 5،3%
* حوالي ثلثي الاغتيالات التي تشهدها فرنسا بسبب تصفية الحسابات، تقع بمارسيليا ( تحديدا 60%).
* في مارسيليا ترتكب جريمة سطو باستعمال السلاح مرتين أكثر من مدن فرنسا الأخرى الأكثر سوءا .
* ارتفاع السرقات بنسبة 19،4% في ظرف سنة
* ارتفاع الاعتداء على المواطنين بالعنف بنسبة 54،9%.
* ارتفاع سرقة السيارات بنسبة 5،3%
* حوالي ثلثي الاغتيالات التي تشهدها فرنسا بسبب تصفية الحسابات، تقع بمارسيليا ( تحديدا 60%).
* في مارسيليا ترتكب جريمة سطو باستعمال السلاح مرتين أكثر من مدن فرنسا الأخرى الأكثر سوءا .
تقرير وزارة الداخلية الفرنسية ليس بالوحيد الذي يزكي الظاهرة، إذ في أكتوبر 2024 أصدر قضاة مجلس الحسابات بفرنسا تقريرا طافحا بالدم بشأن تسيب الوضع الأمني في مارسيليا. إذ جاء في التقرير أن الشهادات الطبية المسلمة من طرف رجال البوليس بهاته المدينة ارتفع تسليمها بنسبة 34%. أما عند عناصر الشرطة القضائية فالوضع أفظع، إذ تضاعفت النسبة أربع مرات، مما يبرز ، والكلام لقضاة مجلس الحسابات، رفض أغلب رجال الأمن الفرنسي العمل بمارسيليا الذين أنهكهم الوضع، لغياب أفق ضبط الفضاء العام وتحريره من سطوة المافيا والعصابات وتجار المخدرات.
مارسيليا لم تتربع على عرش الإجرام بفرنسا بمقتضى مرسوم حكومي أو قرار بلدي أو نزوة مجتمعية، بل البروفيل الإجرامي للمدينة يجد جذوره في محطتين تاريخيتين بارزتين شكلتا المهد الشرعي لولادة الإجرام العنيف بمارسيليا:
المحطة الأولى: تعود إلى الفترة الممتدة بين 1876 و 1886، التي شهدت هجرة مكثفة لمارسيليا من إيطاليا ومن جزيرة كورسيكا للعمل في أوراش المدينة وبمينائها بثمن زهيد. لكن لما حدث الانكماش الاقتصادي، وتم تسريح آلاف العاملين ووقع التضخم وغلاء الأسعار ، تضرر المهاجرون الإيطاليون والكورسيكيون بشكل أكبر، علما أنهم كانوا أصلا يعيشون هشاشة اجتماعية قبل الانكماش. وازداد فقرهم بعد الأزمة الاقتصادية أواخر القرن 19، مما أدى إلى بروز مجموعات إجرامية إيطالية وأخرى كورسيكية منظمة تسطو على الممتلكات وتنهب المحلات التجارية وتقوم بسرقة منازل الميسورين. وفي عام 1887 صنفت مارسيليا وجزيرة كورسيكا ضمن المدن الأكثر إجراما les departements les plus criminogènes
المحطة الثانية: ترتبط بعام 1930 وتنامي سوق الهيروين بأمريكا، إذ برز اسم لامع في سماء المافيا بمدينة مارسيليا، اسمه Paul Carbone، ذو الأصول الكورسيكية، الذي راكم ثروة فرعونية من تصدير الهيروين من تركيا إلى نيويورك الأمريكية عبر ميناء مارسيليا، مما أدى إلى ميلاد شبكة ومسارب تهريب المخدرات تسمى French Connection، بحكم أن ميناء مارسيليا يعد أحد أهم موانئ البحر المتوسط، وكانت تتحكم فيه النقابات الدائرة في فلك المافيا الفرنسية. في هذا السياق برز وتطور اقتصاد المخدرات بمارسيليا وتم تجهيز مختبرات لتطوير وصنع الهيروين لتصديره إلى أمريكا.
ومما زاد من قوة مافيا مارسيليا أن المخابرات الأمريكية كانت على علم بمسار تهريب الهيروين من تركيا عبر فرنسا، إلا أن حسابات المخابرات الأمريكية (CIA)، للحيلولة دون سقوط ميناء مارسيليا وسقوط مؤسسات المدينة بيد الشيوعيين الفرنسيين، جعل واشنطن تغض الطرف على اقتصاد الهيروين بجنوب فرنسا، خاصة وأن مافيا مارسيليا تواطأت ولعبت دورا حاسما لطرد الشيوعيين من الميناء القديم Vieux Port.
بفضل هذا التواطؤ، ازداد نشاط مافيا المخدرات بمارسيليا وانتعش أكثر خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين، بشكل جعل سلطات باريس عاجزة عن التدخل لاستعادة السيطرة على مدينة مارسيليا، خاصة وأن معظم المتورطين ينتمون لكورسيكا التي يعد ملفها شوكة في حلق حكومة فرنسا بسبب حساسية مطلب الانفصال والاستقلال.
ورغم انقلاب واشنطن وتدخلها في أواسط السبعينات لتجفيف منابع مافيا مارسيليا وتقزيم حجم صادراتها من المخدرات عبر الضغط على تركيا لتشديد الخناق على مسارب التهريب، فإن ذلك لم يشفع في تطهير شوارع مارسيليا من الإجرام والقتل والخطف والسرقة.
إن كانت إيطاليا تفتخر باحتضانها دولة الفاتيكان وسط تراب الطاليان، فإن فرنسا تحس بالعار يلاحقها وهي ترى نشوء إمارة "مارسيليستان" في خاصرتها، دون أن تتمكن من بسط حكمها على المدينة. وهذا ما يفسر لماذا يتنامى اليوم في صفوف الفرنسيين مطلب إرسال الجيش لتدبير شؤون مدينة مارسيليا، خاصة وأن آخر استطلاع للرأي كشف أن 60% من الفرنسيين يؤيدون قرار إرسال الجيش لتحرير مارسيليا من احتلال المافيا والعصابات المنظمة وتجار المخدرات، ومسح العار من جبين فرنسا.