الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

تسليت أونزار: النضالُ القذِر

تسليت أونزار: النضالُ القذِر

ما زالت حكاوي والدي، وأنا في بداية سنوات طفولتي في الثمانينات، عن فترة المقاومة في المغرب إبان الاحتلال الفرنسي، وعن انضمامه لجماعة "اليد السوداء"، ما زالت راسخة في مخيلتي، كما لو أنها قصص مصورة، أو من وحي خيال كاتب سيناريو لفيلم تلفزيوني.

كنت مازلت صغيرة وعقلي الطفولي لم يستوعب حينها مدى رمزية تجربته تلك ومدى أهمية الدروس المستخلصة منها. لكن، وبعد كل هذا العمر، أراني متشبعة بمبادئ شربتها منه، ترسخت في لاوعيي، وأحمد الله على أنها كانت جزءا من تكوين شخصيتي.

كما الأمس القريب، أذكر كيف أخبرنا، وبعد عودة السلطان محمد الخامس من منفاه إلى أرض الوطن، حيث فُتحت حينها أبواب التسجيل في لوائح المقاومين حتى يتم تعويضهم ومنحهم بطاقة "مقاوم".. ما زلت أذكر كيف أخبرنا بعنفوانٍ رفضَه التسجيل، لأنه رأى أن كل من هب ودب استغل تلك الفرصة، رغم أن البعض لم تكن لهم علاقة بالمقاومة، بل منهم من كانوا جواسيس وخونة وعملاء، أو كانوا جبناء لا يرونهم في الساحة إلا بعد انفراج أزمة ما... كل هذه الفئات تقدمت لتُدلي بشهادات زور عن مسارها النضالي المتَخَيَّل، ليتم بالفعل تسجيلهم وليُمنحوا فيما بعد، البطاقة الشهيرة!

بسبب هؤلاء، رفض والدي رحمه الله، وضع اسمه إلى جانب أسماء اعتبرها عارا على الاستقلال، رغم أنه كان في أمس الحاجة إليها، أبَى أن يوضع في نفس خانتهم لأنه علم أنها لن تعوضه أبدا عن المخاطر التي كادت أن تؤدي بحياته ومن معه، ولأنه قبلا، علم أن حب أو فداء وطن لا يقايض ببطاقة، بل بنفْسٍ وتضحيةٍ ودماء.

توفي أبي الآن، منذ أن كنت طفلة، لكن كلماته ظلت أبدا في بالي وبداخلي، لم أعيها إلا وأنا كبيرة ومن خلال مواقف لي في الحياة.

لم أغنم بالعيش في كنفه طويلا، لكن مساره النضالي رسخ لدي قيم إنسانية وأخلاقية لم أتعلمها في المدرسة.. قيم أجدها تحضرني اليوم أكثر من ذي قبل، حيث هذا التخبط الذي تعيشه الحركة الأمازيغية وكل هذا الشد والجدب، مرة من أجل النهوض بهويتنا، ومرة من أجل الركوب عليها لأغراض مادية.

غريب كيف كان نضال والدي ورفاقه ممن أذكر: خالي "بيهي"، عمي "ابن صالح"، عمي "علي المناضل".. كيف كان نضالهم من أجل استقلال البلد فقط، دون التفكير في المردود والمكسب، رغم أن عمي "ابن صالح" فقدَ إحدى عينيه جراء رصاصة من المستعمر. كان جهدهم وتفانيهم في خدمة قضية الوطن على حساب راحة أسرهم.. كان الخطر يتهددهم وكانوا يفرون دائما تاركين زوجاتهم وأطفالهم بمفردهم. كان كل شيء يهون في سبيل تحرير الوطن...

وغريب كيف نرى اليوم من يناضل من أجل ظهور صورته في الإعلام، أو من أجل تصريح لجريدة، أو من أجل منصب أو أجرة شهرية، أو من أجل خلق التفرقة في صفوف الحركة الأمازيغية، حتى يظهر الأمازيغ على أنهم فئة متطرفة، متعصبة، إقصائية، صهيونية.. وما إلى ذلك من كل التهم التي تجعلنا نرجع عشر خطوات للوراء، بينما نتقدم فقط خطوة واحدة للأمام!

القضية الأمازيغية هي قضية شعب بأكمله، كل المغاربة معنيون بها.. صحيحٌ "ما حك جلدَك مثل ظفرك"، بمعنى أننا الأمازيغ أجدر وأولى بالنضال في سبيلها، لأننا كقومية نعيش الحيف اللغوي والحقوقي فوق أرضنا، لكن هذا لن يكون سببا في إقصائنا للآخر وتطبيق سياسة الكيل بمكيالين، وكذلك لا يجب أن نسمح بتسخير قضيتنا من أجل أهداف مادية فردية قد تجعل من الوسيلة مبررا للغاية. هذا، للأسف، ما أصبح عليه بعض المناضلين والنشطاء، حيث صارت القضية ساحة للجدال العقيم والصراعات الكثلية، و المزايدات الفكرية، والكل يشعر أن بساط الحركة ينسل من تحت الأقدام، ولا من يرفع نقطة نظام أو وقتا مستقطعا من أجل الوقوف على لماذا وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم في تَشَيُّعٍ وتوجهات معاكسة، رغم أن الكل ينادي "أمازيغيتي أولا و أخيرا".

هناك خلل، أكيد، أخلاقي.. فلو انطلق كل شخص من نفسه إيمانا منه بالعطاء فقط من أجل النهوض بهويتنا بعيدا عن أي نرجسية إعلامية، أو وعود بمنصب.. لو كنا نستحضر القيم الإنسانية في نضالنا، لكنا قطعنا أشواطا في المكتسبات ولما ضيعنا جهودنا في تصيد أخطاء بعضنا البعض أو خلق أعداء لنا هدفهم التفرقة ومحو كل ما هو أمازيغي من على سطح الأرض!

لابد أن تكون لنا وقفة مراجعة وإعادة حسابات، إذ الوضعية الراهنة لا تبشر بالخير، وكلُّ تعنت أو عناد لن يزيد قضيتنا إلا خُسرانا.

ليس من العيب الخطأ، ولكن الأفظع منه هو التمادي فيه ونكرانه وضرب عرض الحائط بالانتقادات الموجهة إلينا، وكأننا الأبلغ حكمة، والأرجح عقلا، والأكثر خبرة، وما سوانا إلا أطفالٌ على طريق النضال لا يفقهون فيه حرفا!

هذا هو النضال القذِر، حيث تضيع هوية شعب بين أهداف شخصية وأطماع حزبية وإيديولوجيات فردية، بعيدا عن كل ضمير إنساني ووازع خلقي من المفروض أن يجعلنا يدا واحدة، لا مجموعة أصابع الواحد مختلف عن الآخر.

فلننظر إلى ذواتتا دون نفاق، ولنحاول ألا نخسر أنفسنا من أجل مكسب مادي زائل، ولنتذكر أن التاريخ يسجل القذارة أكثر من النجاحات.. وليقرر كل منا  أي صفحة سيوقع بين دفتيه.