
يعترف الإعلامي الجزائري، توفيق رباحي، أن "النظام الجزائري قد يكون غير متفوق في البناء، لكنه بارع في الهدم. والهدم يعني وضع العصي في الدواليب بأكثر من طريقة". هذه هي الذهنية التي تحكم المسيطرين على قصر المرادية بالجزائر؛ وهي الذهنية التي تمنح قدرها الديبلوماسي لـ «النيف»، غير معترفة بالفارق الكبير بين القانون الدولي والبلطجة المتوحشة.
لقد ضاق العالم ذرعا بغطرسة «القوة الضاربة» التي يبدو أن ارتدادات «زلازلها» قد لحقتها أخيرا، خاصة مع اشتداد الضغط الداخلي عليها منذ 2019، والفشل الذريع الذي تلاقيه الجزائر على المستوى السياسي والديبلوماسي، وانفراط عقد حلفائها التاريخيين، بدءا من إيران وانتهاء بسوريا، فضلا عن هزائمها الديبلوماسية المتتالية ضد المغرب، في أوروبا، وفي العمق الإفريقي.
لم يفهم عسكر الجزائر جيدا اعتراف الإدارة الأمريكية بالسيادة المغربية على الصحراء عام 2020، ولم يستوعبوا انضمام إسبانيا إلى خطة الحكم الذاتي في الصحراء بوصفها سقفا لكل تسوية للنزاع. وأخذوا بالرجفة الكبرى حين انهار عليهم موقف باريس من القضية، مما جعلهم يفقدون التوازن، ويبحثون عن حزمة عصي ليضعوها في عجلة المغرب الذي أظهر للمنتظم الدولي أنه قوة إفريقية تتمتع بالمصداقية، بعيدا عن الاستعراض العسكري والشعور المرضي بالعظمة، شأن كل الأنظمة التوليتارية التي لا تعترف بألواح التاريخ المتحركة، ولا بقيمة التطور.
لقد حاولت المخابرات الجزائرية العسكرية طويلا عزل المغرب عن سياقه الإقليمي. حاولت أولا احتواء موريتانيا منذ السبعينيات وتسخيرها لتطويق المغرب جنوبا، بل هيأت جميع الظروف لتوطين البوليساريو في منطقة وادي الذهب، لولا يقظة الملك الراحل الحسن الثاني الذي نسف مكائد عسكر الجزائر، ثم مارست الإرشاء في إفريقيا واستغلت موجة التحرر الوطني لتدفع بالكثير من القيادات الإفريقية إلى الاعتراف بالجمهورية الصحراوية الوهمية، وصرفت ملايير الدولارات لدعم الانفصال في الصحراء، وحولت النزاع إلى «معتقد سياسي» و«قضية حياة أو موت»، ظنا منها أن الاستنزاف سيضعف المغرب، ويجعله رخوا ومستسلما وخنوعا. غير أن إفريقيا اليوم ليست إفريقيا أمس، والمعادلات الجيوسياسية لم تعد هي نفسها التي كانت في السابق. كما أن المغرب عمل بدأب، وبيقظة تامة، على إفشال كل المخططات الجزائرية، مما أسقط الكابرانات في سياسة «العته المزمن»، فلا يخرجون من حفرة صنعوها إلا ليسقطوا في حفرة أخرى، إلى درجة أنه لا يمكن عد السقطات في كل الواجهات، السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والرياضية والأمنية، مما يفسر الخطوات الانهزامية اليائسة التي يقوم بها شنقريحة وتابعه تبون من أجل عرقلة التقدم المغربي. ومن أوجه هذا السقوط:
أولا، الفشل في تسميم العلاقات بين الرباط والقاهرة، بعد «تسريب» وثيقة سرية مزورة تتهم المغرب بمحاولة زعزعة الاستقرار في مصر والتجسس على النظام المصري وتأليب إعلاميين عليه.
ثانيا، الفشل في احتواء موريتانيا والزج بها في نزاع حربي مع المغرب لإبطال المبادرة الأطلسية الإفريقية التي أطلقها الملك محمد السادس، وتحييد الرباط وفصلها عن مخطط أنبوب الغاز المغرب/ نيجيريا.
ثالثا، فشل الاتحاد المغاربي الثلاثي، بعد الإلحاق القسري لتونس قيس سعيد الديكتاتور، وليبيا المهددة في وحدتها الوطنية. بينما أثبتت موريتانيا جدارتها السياسية بالابتعاد عن استفزاز المغرب أو الاستعداء على وحدته الترابية، مما جعل المراقبين يؤكدون أن هذا التكتل ولد ميتا، ولا سبيل إلى أي اتحاد يغفل أحد أركانه الأساسيين.
رابعا، محاولة استنساخ تجربة البوليساريو، وتطريسها على منطقة الريف، باحتضان ما يسمى مكتب تمثيلية الريف، وتأسيس «الحزب الوطني الريفي» في بروكسيل بدعم مباشر من المخابرات الجزائرية. سعيا منها إلى إضعاف المغرب وتقسيمه، أو على الأقل الإيهام بوجود نزعات انفصالية داخله. ومن يدري فقد تحتضن العاصمة الجزائرية غدا تمثيلية تدعو إلى انفصال عبدة عن دكالة أو حاحا عن الشياظمة أو الدار البيضاء عن فضالة!!
خامسا، الفشل في إقناع دول غرب إفريقيا بالالتحاق بالقوة الإقليمية الضاربة التي علمت أوروبا الديمقراطية، واحتضنت أهل الكهف، قهرت السند والهند والألمان والبرتقيز واليابان، بدءا من مالي التي انقلبت عن اتفاقية الجزائر، وليست انتهاء بالنيجر التي عبرت عن غضبها الشديد من التعامل الفوقي للنظام الجزائري الذي يضرب في العمق مبدأ السيادة، خاصة أن الكراغلة يستفيدون من الوضع الأمني المتردي في المنطقة، على مستوى الهجرة غير الشرعية والنزوح القسري والاتجار بالبشر، مع الزيادة المذهلة لتظفق المهاجرين في السنوات الأخيرة.
سادسا، الفشل في الاستفادة من مخططات طهران في المنطقة المغاربية، وذلك بعد التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط، وتكبد حزب الله اللبناني لخسارة فادحة في الأرواح والعتاد، فضلا عن تنازلات إيران وتسوياتها السرية مع تركيا وواشنطن.
سابعا، خسران حليف استراتيجي آخر، ويتعلق الأمر بنظام بشار الأسد في سوريا، بعد سقوط هذا النظام، ومسارعة الكابرانات يوما قبل هذا الحدث إلى دعم بشار ووقوف الجزائر إلى جانبه ضد «الإرهابيين».
ثامنا، الفشل في احتواء الغضب الشعبي، وإلقاء اللوم على «دولة أجنبية» في كل ما يمور في قلب الجزائر من حرائق واستياء وثورات، وتجنيد قوات الأمن لاعتقال النشطاء الحقوقيين والإعلاميين والكتاب والمثقفين الذين ينشدون دولة مدنية حقيقية، ويدعون إلى عودة الجنرالات إلى ثكناتهم.
على العسكر الجزائري، إذن، أن يجيب على السؤال التالي: لماذا هذا الفشل الكبير على كل الأصعدة؟ كما على هذا الجواب أن يكون في غاية الوضوح، بدءا من قيام الجزائر بمراجعة للذات، والقطع نهائيا مع نظام يسيطر عليه كبار الضباط ومسؤولو الأجهزة الأمنيّة، وأن يتوقفوا عن منهجية استعراض القوة العسكرية في عالم يتحول باستمرار، وفي عالم لا تنفع معه الشعارات والبلطجة والاستعداء على الجيران..
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"