ألقى ابراهيم اسعيدي، أستاذ الدبلوماسية والدراسات الدفاعية وعميد الدراسات العليا والبحث العلمي بأكاديمية جوعان بن جاسم للدراسات الدفاعية محاضرة تحت عنوان : " تصورات حول تطوير الدراسات الدفاعية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، والتي عرفت حضور عدد من الأساتذة والباحثين والطلبة والمهتمين بهذا الحقل المعرفي الذي يتناول الشق العسكري ويركز على مقومات القوة العسكرية في إطار حقل أكبر وهو الدراسات الأمنية.
الباحث اسعيدي ركز في البداية على أهمية التمييز بين الدراسات الأمنية والدراسات الدفاعية مشيرا بأن مفهوم الأمن هو أشمل من مفهوم الدفاع ولكن يرتبطان معا في مصادر التهديد، لأن الدراسات الأمنية تشمل جميع مصادر التهديد، سواء كانت تهديدات عسكرية أو غير عسكرية والتهديدات الآنية والتهديدات المستقبلية . التهديدات التي تأتي من الداخل والتهديدات التي تأتي من الخارج وأحيانا هذه التهديدات يصعب توقعها وأحيانا يصعب فهمها لسبب بسيط، وهو أن الظاهرة الأمنية أصبحت ظاهرة معقدة بسبب التطور التكنلوجي وبسبب تغير بنية النظام الدولي، فالتهديدات الأمنية التي كانت خلال الحرب الباردة ليست هي التهديدات التي نواجهها اليوم بعض سقوط الاتحاد السوفياتي وتغير بنية النظام الدولي، حيث يجري الحديث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عن التهديدات السيبرانية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، واليوم أصبح التهديد السيبراني جزء من السياسات الأمنية، مما يعني – بحسب الباحث - أن الأمن كمفهوم هو مفهوم نسبي يتغير بتغير البيئة وتغير المعطيات التكنلوجية ولكنه يرتبط بمصادر التهديد، في حين أن الدفاع كمفهوم هو مفهوم ثابت يركز على القوة العسكرية. من جهة ثانية تركز الدراسات العسكرية على التهديد العسكري، بينما الدراسات الأمنية هي أشمل وأوسع، حيث تشمل التهديدات العسكرية وغير العسكرية .
وأشار الباحث أنه من غير المستساغ اليوم الحديث عن أمن الدولة فقط، بل لابد من استحضار أمن الأفراد وأمن المجتمعات، مؤكدا بأن الدول لا يمكن أن تحقق أمنها وتحافظ عليه بالقوة العسكرية فقط، مقدما مثال الصين وهي قوة عسكرية عظمى وكبرى، ولكنها تعاني من مشكلات أخرى فيما يتعلق بالأمن المائي والأمن الطاقي وغير ذلك ، فبالتالي فمرجعية الأمن لا ترتبط فقط بالدولة وأن أمن الدولة لا يتحقق فقط بالفواعل العسكرية ومواجهة التهديد العسكري بل إنه يتحقق بعدد من الأشياء الأخرى التي ترتبط بمرجعية المجتمع والأفراد وليس بمرجعية الدولة فقط.
بعدها انتقل الباحث في محاضرته لتبيان معايير وجود دراسات دفاعية في جامعة أو بلد ما، وأول هذه المعايير، هو درجة الاهتمام عند أصحاب المصلحة وتنويههم وتشجيعهم وانفتاحهم وطلبهم للخدمات التي تقدمها الدراسات الدفاعية كحقل ينتج المعرفة وينتج الأبحاث، وأصحاب المصلحة هم القوة المسلحة وأجهزة الاستخبارات ومجالس الأمن القومي وكذلك القطاع الصناعي العسكري، مقدما مثال الولايات المتحدة الأمريكية حيث تشتد الخلافات بين بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، حينما يتعلق بالأمر بميزانية الدفاع لأن هذا القطاع له مصالحه الخاصة في تمويل الدراسات والأبحاث، مضيفا بأن الإدارة المالية لقطاع الدفاع لها مصلحة كبيرة في وجود هذه الدراسات.
وأشار الباحث أن هذا المعيار يمكن أن يعطينا فكرة عن تفاعل المؤسسات المدنية والمؤسسات العسكرية التي تشتغل بهذه الدراسات والخدمات التي تقدمها للدولة وتقدمها للمجتمع، لأن الجامعات لا تقدم دراسات أو أبحاث من أجل الترف الفكري وإنما خدمة لأصحاب المصلحة، ولذلك لابد أن يكون هناك ارتباط ما بين الجامعة سواء مدينة أو عسكرية بأصحاب المصلحة الذين سيستفيدون من هذه الدراسات .
والمعيار الثاني هو وجود مجتمع علمي : لا يمكن القيام بدراسات اقتصادية أو سياسية أو دفاعية دون وجود مجتمع علمي، متخصصين، باحثين، شخصيات تندرج أعمالهم في إطار البحث العلمي، ويتم تحكيم أبحاثهم ودراساتهم وفق المناهج العلمية.
والمعيار الثالث هو وجود برامج دراسات عليا في التعليم الجامعي، الذي لا يقتصر على نشر المعرفة فقط وإنما وظيفته بالأساس هي إنتاج المعرفة، فلا يمكن إنتاج المعرفة وتطويرها إلا من خلال الدراسات العليا ومن خلال الأبحاث على مستوى الماستر والدكتوراه والأبحاث التي ينتجها الباحثون والدكاترة حيث نجد مثلا في جامعة مدريد تخصص إدارة الموارد الدفاعية، كما يمكن أن نجد تخصص في الدبلوماسية الدفاعية في الدراسات العليا في أمريكا، وتخصص الدفاع السيبراني..الخ، ولابد أن يتم ربط هذه الدراسات بالبحث العلمي وأن تكون هناك مراكز أبحاث متخصصة ومجلات علمية، مقدما مثال معهد " سيبري " الذي أصبح جزء من القوة الناعمة لدولة السويد حيث تخصص في موضوع واحد منذ نشأته سنة 1969 وهو التسلح ونزع السلاح. المعهد البريطاني للدراسات الاستراتيجية الذي تأسس سنة 1958 وأسس أول مجلة وهي مجلة Surviver. وخلال الحرب الباردة كانت تهتم هذه المجلة بالتهديد النووي وتتناول مواضيع وشؤون الدفاع .
والمعيار الأخير، هو التعاون العلمي بين المؤسسات المدنية والمؤسسات العسكرية، فلا يمكن الادعاء بوجود دراسات دفاعية - بحسب الباحث - اذا لم يكن هناك تعاون، لأن الدراسات الدفاعية ليست حكرا على العسكريين ولا على المدنيين بل هي مجال من مجالات العلاقات المدنية والعسكرية، مضيفا بأن التجارب الدولية السائدة في هذا المجال تظهر أن هناك شراكات أكاديمية ومذكرات تفاهم ما بين مؤسسات التعليم العسكري والجامعات المدنية، فعلى سبيل المثال كلية الدفاع والأركان المشتركة في ألمانيا تقدم برامج لدراسات عليا مشتركة وتمنح الشهادة من طرف جامعة مدنية.
وعلاقة بتطوير الدراسات الدفاعية في المغرب، أوضح الباحث أن هذه المعايير يمكن أن نشتغل عليها للتفكير في كيفية تطوير هذه الدراسات، مشيرا بأنه منذ 1956 بالنسبة للجيش المغربي، هو تلبية احتياجات الضباط فيما يتعلق بالتدريب والتعليم، مضيفا بأن التدريب العسكري الذي يعطي للضابط تدريبا مهنيا في إطار عمليات عسكرية سواء في مجال البر أو البحر أو الفضاء لا يمكن أن يتحقق الا اذا كان يسير بشكل متوازي مع التعليم والتكوين الأكاديمي، لأن الضابط الذي سيصل الى مرحلة القيادة ويتحذ القرار الاستراتيجي ويتحمل مسؤوليات لابد أن يكون عنده التكوين الأكاديمي والمعرفي الذي يسمح له باتخاذ القرار بطريقة سليمة تحمي مصلحة الوطن، وأن هذا التكوين لا يمكن أن يقتصر على المفهوم التقليدي الذي كانت تطرحه الدراسات الحربية والدراسات الاستراتيجية، بل لابد له من الاعتماد على الدراسات الدفاعية التي تجسد تطورا للمعرفة . وذكر الباحث أن الجيش المغربي قام بتوفير معاهد التكوين وأسس عددا من المدارس والكليات لتلبية احتياجات الضباط في الكليات البرية والبحرية والجوية، ولكن وجود التعليم العسكري لا يعني بالضرورة وجود دراسات دفاعية لأن الدراسات الدفاعية هي أكثر تقدما لأنها ترتبط بوجود برامج دراسات عليا متخصصة في المواضيع المذكورة سابق.
وأوضح المحاضر أن قياس الجيش المتطور أو الجيش الحديث ليس بعدد الأشخاص المحترفين مهنيا وإنما أصبح يبنى على معايير الضباط المتطورين والحاصلين على تكوين أكاديمي ( عدد الضباط الحاصلين على درجة الماستر ودرجة الدكتوراه )، مؤكدا بأن هذا أهم معيار لقياس الكفاءة الفكرية لقادة المستقبل ومستوى التطور في الفكر الاستراتيجي، وأن هذا لا يمكن أن ينحصر على بعض الدورات الأساسية للتكوين العسكري التي تقدمها المؤسسات العسكرية فيما يتعلق بدور العتاد ودور الدفاع، بل إن الأمر يتطلب سياسات وخطط في طريقة بناء القدرات والتدريس والبحث الكامل وتأسيس مراكز للأبحاث.