نعم... ليس غريباً أن تأتينا الدروس والعبر باستمرار من جارتنا الشرقية، شافاها الله وعافاها مما هي فيه من الهوان، لكنها دروس من النوع الذي قيل فيه: "وقعنا في هذا عن قصد حتى تتعلموا منا ولا تقعوا فيه"!!
قبل يومين، انعقد في العاصمة الموريتانية، نواكشوط، مؤتمر إفريقي حول المسألة التعليمية على صعيد القارة السمراء، حضره مسؤولون أفارقة في مجالات مختلفة من قطاع التربية والتعليم والتكوين، من مختلف المستويات والرتب الوظيفية والإدارية، وكان المؤتمر سيمر بلا جعجعة ولا طحين ككل المؤتمرات المماثلة، لولا أن الرئيس الجزائري السي عبد المجيد تبون، بقدّه وقديده، أصرّ على تشريف ذلك المؤتمر بحضوره الملفت لكل الأنظار، ولا شك أنه قصد إلى جعله فعلا ملفتاً للأنظار لأنه كان يعلم مُسْبَقاً أنه سيكون المشارك الوحيد من مستوى رئيس دولة، باستثناء رئيس الدولة المضيفة، وكان بلا شك أيضاً، أو هكذا يُفترَض أن يكون، قد أعدّ خطاباً مدوياً يستحق أن يكون تاريخياً وأن يجعل عدوى "التاريخانية" تنتقل إلى التظاهرة ذاتها ما دام سيادته قد أفردَها بذلك الحضور الكبير والمتميّز!!
غير أن السي عبد المجيد كان الرئيس الجزائري الأول الذي يقوم بزيارة دولة موريتانيا منذ نحو سبع وثلاثية سنة، وبالتالي فقد كان أَلْيَقَ ما ينبغي أن تندرج فيه تلك الزيارة أن تكون "زيارة دولة"، أو تكون على الأقل "زيارة عمل"، دون أن يكون لها أدنى علاقة بمؤتمر قطاعي يخص مسؤولي التربية والتعليم والتكوين، لأنه من غير المعقول ولا المقبول أن يزور رئيس "دولة/قارة" اجتماعا يختص بقطاع واحد هو التعليم، حتى ولو كان في نطاق قاري موسَّع... وهذه وحدها مصيبة!!
المصيبة الأخرى... أن السي عبد المجيد لم يتلق أي دعوة رسمية لحضور تلك التظاهرة، ولا حتى للمجيء أصلا إلى موريتانيا، وإنما أعلنت إدارتُه ووسائلُ إعلامه الهجينة من جهة واحدة عن اعتزامه القيام بتلك الزيارة، دون أن تَصدُر عن الجانب الموريتاني أيُّ إشارة دالةٍ على مجرد استعداده للقيام بما يقتضيه ذلك من الترتيبات الدبلوماسية والبروتوكولية التي تسبق دائما وأبدا استقبال رؤساء الدول لدى أوطان شقيقة أو صديقة مهما كان موضوع الزيارة، ومهما كان إطارها القانوني بلغة القانون الدولي وقواعده، المتعلقة بالتعامل الرسمي بين الدول... معذرة، بين مَن تحمل حقاً وصف "دولة" بمقتضى ذلك القانون... فماذا كانت نتيجة هاتَيْن المصيبتَيْن؟!!
أولاً: أدّت تلك الزيارة غير المبرمجة، وغير المُعدَّة مُسْبَقاً، كما تقتضي ذلك أصول وقواعد الدبلوماسيا، إلى إرباك برنامج العمل الذي وضعه رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية وهو يستقبل ضيوفه الأفارقة المشاركين في المؤتمر القطاعي سابق الإشارة، وجعله يصدر أوامره على عجل، وبشكل ارتجالي قسري، للاستعداد لاستقبالٍ من نوعٍ مختلفٍ يكتسي سبغة "رئاسة دولة"، مما جعل الاستقبال مشوباً بالكثير من الارتباك والارتجالية؛
ثانياً: اضطر الرئيس الموريتاني، تحت ذلك الضغط المفاجئ، إلى إعداد مراسيم استقبال حاول أن يجعلها عادية ولكنها رسمية بكل المقاييس المتعارَف عليها، بما فيها استعراض كوكبة من الحرس الرئاسي مصحوبا بتحية العلم الموريتاني على أنغام التشيد الوطني للبلد المُضيف؛
ثالثاً: كان من غير اللازم ولا اللائق أن يتم عزف النشيد الوطني الجزائري بعد أداء النشيد الموريتاني، ما دام الأمر لا يتعلق ب"زيارة دولة"، لأن البروتوكول المعمول به دولياً في "زيارة دولة" يختلف تمام الاختلاف عما يُعمَل به في كل أشكال الزيارات الأخرى، وبالرغم من ذلك، ظهر نوع من الوجوم على قسمات الرئيس ولد الغزواني، وبدا عليه ارتباك شديد جعل حركاته تبدو وكأنها صادرة عن "روبوت" وليس عن رئيس دولة يستقبل نظيراً له كما ينبغي أن يكون الاستقبال في الظروف العادية... ولكنه معذور في ذلك، لأن الظرف لم يكن عادياً بأي شكل من الأشكال!!
رابعاً: وهذا وحده شكّل مشهداً يندى له الجبين، أنّ الرئيس الجزائري، بطبيعة جهله الشهير والمطبَق بأصول وقواعد التعامل الدبلوماسي بين رؤساء الدول، ربما لأنه إلى غاية يومه لم يستوعب بعد كونَه "رئيسَ دولة" بالفعل، ظل ينتظر عزف النشيد الوطني الجزائري، بل ظل واقفاً في مكانه بإصرار ظاهر، بينما كان الرئيس الموريتاني يحاول يائساً نحنحتَه وجَذْبَه ليُكْمِل المسار إلى جانبه، مما جعل المشهد كارثياً بامتياز، ومثيراً بلا ريب لضحك وسخرية ورثاء كل مَن شاهَدَه من العالَمين، ولا شك أن ذلك المشهد الغريب تم بثه وإعادة بثه على صعيد عالمي واسع، كشأن كل اللقطات الغريبة والمسلية... وكما بدا ذلك بكل وضوح، فقد تحرك الرئيس تبون من مكانه أمام العلم الموريتاني بصعوبة شديدة، وبدا كأنه طفل في سنوات طفولته الأولى يجره أبوه إلى المدرسة في أوّل ولوجٍ له إلى هذه الأخيرة!!
خامساً: ثُم نأتي الآن إلى الكلمة التي ألقاها السي عبد المجيد في الجلسة العامة للمؤتمر التعليمي، لنجد أنه، وفاءً لعادته التي لا يُقْلِع عنها أبدا، لم يجد أدنى حرج في الإدلاء بأرقام خيالية، بل فلكية، وهو يزف للمشاركين خبر التزام دولته بتأمين التربية والتعليم والتكوين لأكثر من خمسة عشر مليون تلميذ وطالب، وهو رقم غير معقول وغير منطقي بالنظر لتعداد سكان الجزائر برمتها، والذي يعلم العالم أجمع أنه في حقيقته لا يصل إلى سبعة وأربعين مليون نسمة، التي درج حكام الجزائر على التأكيد عليها بنفس الوتيرة التي تجعلهم يزيدون ويرفعون تعداد شهدائهم المفترَى عليهم، من مليون إلى مليون ونصف، ثم إلى خمسة أو ستة ملايين ونَيِّف، ثم إلى اثنى عشر مليونا، بل قد قال السي عبد المجيد بعظمة لسانه في أحد تصريحاته العجائبية "إن فرنسا وجدت في الجزائر عند دخولها إليها سنة 1830 نحو أربعين مليون نسمة، وعندما خرجت منها سنة 1962 لم تترك فيها سوى تسعة ملايين من السكان، مما ينتج عنه نحو واحد وثلاثين مليوناً من الشهداء (!!!)
ولكي "تكتمل الباهية"، وربما لأن السي عبد المجيد انتبهَ متأخِّراً إلى الحالة غير الطبيعية لزيارته غير المرحَّب بها، انتفض فجأةً، وغادر موريتانيا على عجل، وبغير سابق إشعار، مما جعله يركب طائرته في غياب الرئيس ولد الغزواني، الذي لم يكلف نفسه عناء توديعه كما يفعل رؤساء الدول في ختام كل "زيارات الدولة" التي تتم في إطار رسمي بروتوكولي مكتمل الأوصاف!!
ولكي "تكتمل الباهية" أيضاً، تناقلت وسائل إعلامية وتواصلية مختلفة خبر رفض الرئيس ولد الغزواني، المُسْبَق، استضافة أيِّ وفد يمثل "جمهورية الجزائر الجنوبية" ( المسمّاة صحراوية) برسم المشاركة في المؤتمر التعليمي سالف الإشارة، رغم أن التظاهرة كانت إفريقية وليست دولية!!
هل نحتاج بعد كل هذا إلى أدنى تعليق؟.. لا أعتقد ذلك... المهم أن الدرس والعبرة قد وصلا بكل الوضوح الممكن!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي