الأربعاء 20 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد صدقي: مؤتمر "كوب 29" على وقع الإبادة البيئية "Ecocide" الشاملة بغزة

أحمد صدقي: مؤتمر "كوب 29" على وقع الإبادة البيئية "Ecocide" الشاملة بغزة أحمد صدقي

ينعقد بباكو عاصمة دولة أذربيدجان مؤتمر أطراف اتفاقية المناخ كوب 29 وفي جدول أعماله قضايا مختلفة خصوصا ما يرتبط بإعادة تجديد آليات وأهداف تمويل المناخ وموضوع سوق الكربون وأيضا موضوع خسائر وأضرار " التغير المناخي.Losses and domages

 

مؤتمر الأطراف هذا وللسنة الثانية يأتي على وقع حرب الإبادة البيئية الشاملة التي ترزح تحت وقعها غزة، إبادة تأتي على الإنسان وعلى البيئة بكل مكوناتها ولكنه رغم ذلك يتم مع الأسف تغييب وقائعها الكارثية في جدول أعماله وفي كل النقاشات التي سبقت هذه اللحظة الكونية الهامة، وقد تابعت العديد منها وتأكد لي بالفعل هذا التغييب الممنهج، مما تتأكد معه طبيعة التوجه الغالب على مثل هذه المحطات والتي تسيطر عليه القوى المهيمنة وهي نفسها المتورطة في حرب الإبادة هذه، وإلا فكيف يمكن في مثل المحطة وهذه اللحظة العالمية المخصصة لقضايا المناخ إغفال هذا المعطى البالغ الأثر على البيئة وعلى المناخ كما سيأتي توضيحه لاحقا ؟

 

- حرب الإبادة هذه هي الأكثر تدميرا في هذا القرن حسب مختلف المصادر المختصة في شؤون الحروب حيث أن ما تم استعماله من الذخائرخلالها لم يسبق له مثيل من حيث القدوة التدميرية و الكثافة المكانية والزمانية، وقد ألقي فقط في الأربعين يوما الأولى من هذه الحرب ما يزيد عن 30 ألف طن من المتفجرات القوية، يعني ما يعادل قوة انفجار القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي مجتمعتين.

 

حرب زادت من وثيرة ومنسوب تصنيع السلاح في معامل الدول المزودة للكيان بالمواد والتجهيزات الحربية، مع العلم أن صناعة السلاح تعتبر من أبرز مصادر الانبعاث الغازي العالمي حيث تمثل نسبة 5.5% من إجمالي هذا الانبعاث و لو تم ترتيب هذه الصناعة بين أرقام الانبعاثات التي تسببها الدول، لجاءت في المرتبة الرابعة بعد الصين و الولايات المتحدة والهند وقبل روسيا، هذا مع العلم أن صناعة السلاح تخضع معطياتها للقيود ولا يصرح بالحجم الحقيقي لها وقد سبق أن دافعت الولايات المتحدة خلال إقرار بروتوكول كيوطو 97 على الإبقاء على سرية وخصوصية الصناعة الحربية حفاظا على ما اعتبرته أمنها القومي.

 

- حرب الإبادة هذه هي الأكثر استعمالا وتحريكا لسلاح الجو من حيث كثافة الغارات الجوية، حيث فقط في الشهر الأول للحرب على غزة تم تسجيل 330 غارة بواسطة الطائرات الحربية و 860 غارة بالمروحيات و 570 غارة بالمسيرات، هذا إضافة إلى تسجيل رقم قياسي للرحلات العسكرية من الدول الغربية ومن قواعدها لدعم الكيان وقد بلغت ستة آلاف رحلة خلال السنة الأولى للحرب وذلك حسب معطيات البيانات الملاحية لموقع "رادار بوكس" إضافة إلى 1800 رحلة للتزويد بالوقود في الأجواء وذلك بناء على معطيات وكالة "سند للرصد والتحقق" مع عدد هائل من رحلات الرصد والاستطلاع لنفس الدول والتي ضمنها تم تسجيل 1600 من بريطانيا فقط. هذا كله مع العلم أن الطائرات الحربية بمختلف أصنافها تستهلك وقود الكيروزين بشكل كبير، فعلى سبيل المثال فطائرات الحرب F35 تستهلك 5600 لتر من الكيروزين في ساعة واحدة فقط، وكل 1 كلج من الكيروزين ينتج عن احتراقه 3،16 كلج من ثنائي اوكسيد الكربون ،علما أن هذا الوقود يعتبر بنحو مرتين أو أربعة أكثر من أي نوع آخر من أنواع الوقود إضرارا بالبيئة والمناخ.

 

وهنا نتصور حجم الانبعاث الغازي من CO2 وباقي الغازات الدفيئة الناتجة عن تحريك كل هذه الأساطيل الضخمة التي سبق ذكرها حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية احتاجت في سنة واحدة فقط وهي سنة 2017 لتحريك مختلف أساطيلها 270 ألف برميل من النفط الخام يوميا مما ساهم حينه في إفراز 25 مليون طن من ثنائي اوكسيد الكربون في الأجواء وهذا مع العلم أن الجيش الأمريكي هو الأكثر إحداثا للتلوث في الشرق الأوسط حتى قبل هذه الحرب فما بالنا في أوجها !!

 

- حرب الإبادة هذه هي الأكثر استفادة من الدعم المالي الغربي خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية والذي بلغ غلاف 27.9 مليار دولار حسب تقديرات أمريكية منها 4.9 مليار دولار كنفقات لإرسال حاملات الطائرات وتحريك أنظمة الدفاع ونقل الجنود، وتأتي ألمانيا في الدرجة الثانية والتي تضاعف دعمها للكيان خلال هذه الحرب عشر مرات ليصل إلى 326 مليون أورو وهذه المبالغ لو تمت مماثلتها ومكافأتها بأحجام الانبعاث الغازي وفق عوامل الانبعاث النقدية Monetary emission factors لتحولت إلى أحجام خيالية من CO2eq... وهكذا ولتقريب الصورة فقط، فلو أن هذه المبالغ تأتت في مصدرها مثلا من أرباح أو ضرائب معامل صناعة وبيع السيارات فستماثل ما يكافئ قيمة مليون و 400 ألف سيارة و بمعدل انبعاث خلال تصنيع كل سيارة يقدر ب 5.6 طن من CO2 ستكون الحصيلة الإجمالية للانبعاثات هي 7.8 مليون طن من CO2eq .

 

- حرب الإبادة هذه وحسب المجلة العلمية The lancet دمرت 92% من المؤسسات التعليمية و 82% من البنيات الصحية وحسب معطيات مستجمعة من طرف الأمم المتحدة بناء على صور الساتل العالية الجودة الملتقطة يوم 24 شتنبر 2024 فقد تم تدمير 163778 بناية يعني ما يعادل ثلثي مباني غزة وحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإنه إلى حدود شهر يوليوز 2024 بلغ ركام الأبنية المدمرة ما مقداره 42.2 مليون طن وبناء على هذا الرقم قمت بحساب مساحة هذه الأبنية المدمرة مع اعتماد رقم معلن وهو 300 كلج من الركام لكل متر مربع فحصلت على رقم مساحة مقدارها 140 مليون متر مربع من الأبنية المدمرة وعندما استعملت عامل الانبعاث الخاص ببناء المساكن بالاسمنت المسلح والمعتمد من لدن قواعد معطيات معترف بها دوليا ومنها الموضوعة من طرف وكالة النجاعة الطاقية الفرنسية ADEME ,والمحدد في ( 436Kgeq.CO2/m2)، وصلت إلى نتيجة أنه فقط لإعادة بناء هذه المنشآت وفق حجمها الأصلي وإرجاعها فقط كيفما كانت قبل الدمار فإن العملية سينتج عنها انبعاث غازي بحجم 61 مليون طن من CO2. أما فيما يخص إزالة هذا الكم الهائل من الركام فحسب بعض التقديرات فتلزمه 14 سنة من الأشغال وباعتماد نفس قاعدة المعطيات وعامل انبعاث 26 kgCO2eq./ ton of debris فإن سحب هذا الركام سينتج عنه ما يفوق مليون طن من .CO2eq

 

- حرب الإبادة هذه وحسب تقارير مختلفة سببت موجة نزوح غير مسبوق لساكنة غزة حيث أن 90% منهم نزحوا على الأقل مرة واحدة هذا إضافة إلى 350 ألفا الذين نزحوا بلبنان وهو ما ستكون له أيضا تكلفة كربونية معتبرة حتى إن كان من الصعب مقاربتها بدقة،

 

- حرب إبادة باشر فيها الكيان إشعال الحرائق بالغطاء النباتي وتخريب ونسف حقول الزيتون وإزهاق أشجار عمرت لقرون طويلة بقيت خلالها رمزا وموروثا ثقافيا ودعامة للتنوع البيولوجي وللتوازنات الايكولوجية بغزة وفلسطين عموما وهي تساهم في إقبار sequestration، ثنائي اوكسيد الكربون وتوفر منتوجا محليا يساهم في خفض البصمة الكربونية الغذائية هذا مع عدم إغفال مساهمة إشعال الحرائق هذا في انبعاث ثنائي اوكسيد الكربون. هكذا وفي تحليل لصور الأقمار الصناعية قام به فريق التحقيق الرقمي في الجزيرة اتضح تضرر (60%) من الأراضي الزراعية في غزة بعد تسعة أشهر من انطلاق الحرب.

 

- حرب الإبادة هذه لها أيضا تكلفة بيئية عامة حيث تم تدمير محطات تصفية الصرف الصحي الخمسة بغزة لتطفو المياه العديمة على السطح في كل المناطق وتشكل مستنقعات تتكاثر وتنبعث منها عوامل بيولوجية وجرثومية خطيرة مع التسبب في تلويث واسع النطاق بالمواد الكيميائية المختلفة.

 

أما الفضلات الصلبة فقد قدرت الكميات المنتشرة عشوائيا في كل مكان خلال الأشهر الثمانية الأولى للحرب ب 330 ألف طن من النفايات والتي ساهمت في انتشار القوارض ونواقل العدوى الأخرى للأمراض المعدية وللأوبئة المختلفة.

 

هذا إضافة إلى مفعول المواد الكيميائية السامة وجزيئات المعادن الثقيلة الناتجة عن المقذوفات والقنابل وأيضا الناتجة عن حركة الطيران الحربي المكثف وأيضا الناتجة عن استعمال الأسلحة المحرمة دوليا من قبيل الفسفور الأبيض وكل ذلك يحدث آثارا وأضرارا بيئية وخيمة تفتك بالتنوع البيولوجي وبخصوبة الأرض وتسبب تلويث المياه السطحية والباطنية وتلحق الأذى بالإنسان وبكل الكائنات الحية ومختلف الأوساط الطبيعية و تحدث اختلالات لا رجعية في مختلف التوازنات الإيكولوجية.

 

بالعودة إلى الأعمال التي قاربت حسابيا و قدمت تقديرات كمية للبصمة الكربونية لهذه الحرب وهي جد قليلة مع الأسف (عكس ما تم تسجيله بشأن حرب أوكرانيا) ومنها التي أنجزها باحثون من جامعتي Lancaster و Queen Mary و حددت حجم انبعاث الغازات الدفيئة خلال الستين يوما الأولى من الحرب ضد غزة في 281 ألف طن CO2eq أو ما يماثل 15 ألف طن من الفحم، منها 133 ألف طن CO2eq ساهمت بها الطائرات الأمريكية المعبأة في إطار هذه الحرب. دراسات أخرى أنجزت في حدود الأشهر الأربعة الأولى لهذه الحرب (Benjamein Neimark et al ) تفيد بكون كمية هذه الانبعاثات تتراوح بين 47 و 61 مليون طن من CO2eq. هذا ومن المفارقات الملاحظة كون بعض الدراسات حاولت تضخيم حجم الانبعاثات التي يمكن أن تسبب فيها قوى المقاومة باستعمال أسلحتها التي يعلم الجميع أنها عموما مصنوعة محليا و فق الوسائل والتقنيات البسيطة و بكميات محدودة، وهي بالطبع ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار؛ ولكن في حدود حجمها الحقيقي، هذا أيضا مع تضخيم تلك التي يفترض أن تنتج عن حفر الإنفاق بغزة مع إغفال إدراج في مقابلها للانبعاثات المفترض أن تنتج عن إقامة البنيات العسكرية والحربية للكيان و التي تعتبر ضمن الأوائل الأضخم في العالم.

 

بالوقوف على تفاصيل هذه الدراسات يتضح أنها لم تشمل (حسب الحالات) العديد من أوجه الانبعاث الغازي، فمنها التي لم تشمل انبعاثات إزالة الركام وانبعاثات إعادة الاعمار و لم تشمل ما يمكن إدراجه في النطاق 3 ( Scope 3) من حساب حصيلة الكربون من الانبعاثات غير المباشرة سواء القبلية أو البعدية (upstream and downstream emissions). هذا وأيضا فكلها لم تشمل ما يماثل كربونيا مقادير الدعم المالي الذي تلقاه الكيان كمساعدة له في الحرب على غزة وكل هذا يقلص من حجم الأرقام المعلنة. وكمقارنة بسيطة مع ما تم حسابه وإعلانه بخصوص الحرب الأوكرانية الروسية حيث حددت بعض الدراسات حصيلتها الكربونية في 97 مليون طن CO2eq نصفها محسوب لعملية إعادة الاعمار . دراسة أخرى أنجزتها مؤسسة (Iggaw) المتخصصة في حساب حجم انبعاثات الغازات الدفيئة خلال الحروب حددت انبعاثات حرب أوكرانيا خلال السنتين الاوليين في 175 مليون طن CO2eq . هذه الأرقام تتجاوز بكثير تلك المعلنة بخصوص حرب غزة علما أن كل التقديرات تؤكد أن قوة وكثافة الحرب عليها تفوق بكثير قوتها وكثافتها بأوكرانيا.

 

بناء عليه وبتركيب كل المعطيات السابقة باعتماد القواعد المعتمدة دوليا في حساب البصمة الكربونية (مثل قاعدة معطيات وكالة ADEME ) وعلى مقتضيات بروتوكول GHG و توجيهات مواصفات الأيزو ذات العلاقة بمنهجية حساب حصيلة الكربون وتطبيق ذلك على المعطيات الرسمية خصوصا التي أعلنتها الأمم المتحدة وهيئآت دولية محايدة، وأيضا مع استحضار الأعمال المنجزة وإجراء المقارنات اللازمة فإن التقدير الذي أنجزته لحصيلة الكربون الخاصة بهذه الحرب لا يمكن إلا أن يتجاوز 130 مليون طن CO2eq خلال السنة الأولى منها وهو ما يناهز انبعاثات 80 دولة مجتمعة طيلة سنة كاملة... وهذا بالطبع بإدراج التبعات البعدية خصوصا منها الخاصة بإزالة الركام وإعادة تعمير ما دمرته الحرب والذي سبق تقدير حجم انبعاثاته فيما يتجاوز 61 مليون طن CO2 وهو حجم تبرز دراسات أخرى أنه يمثل ما يناهز نصف الانبعاثات في مثل هذه الحروب.

 

بناء على ما سبق فاني أتوجه بهذا النداء للمشاركين في مؤتمر المناخ كوب 29 المنعقد حاليا بباكو عاصمة أذربيجان وخصوصا لنشطاء البيئة والمناخ سواء الحاضرين فيه مباشرة أو المتابعين لأطواره أن يمارسوا ما يكفي من الضغط لإيقاف هذه الإبادة البيئية الشاملة ويجعلون وقائع حرب الإبادة هذه وآثارها على البيئة ووقعها على المناخ على رأس انشغالاتهم وفي صلب نقاشاتهم خلال أشغاله الجارية، وأن تكون على رأس المطالبات والشعارات المرفوعة تنبيها للعالم ولكل ذي ضمير إلى ضرورة وإلحاحية فعل كل ما يمكن لإيقاف هذه الإبادة التي شملت وأجهزت بشكل غير مسبوق على الإنسان والبيئة وعلى كل أشكال الحياة في تلك البقعة التي تعيش حاليا على وقع أشد خراب ودمار عرفته البشرية .