نسيان هو مصدر فعل "نَسِيَ". وعندما نقول : "فلانٌ نسِيَ الشيءَ"، فالمقصود هو أن هذا الفلانَ لم يعُدْ يتذكَّر هذا الشيءَ. أو بعبارةٍ أخرى، هذا الشيءُ زال من ذاكرة الفلان. والنسيان يكون إما مؤقَّاً وإما دائما. فإذا كان مؤقَّتاً، فهذا معناه أن الشيءَ المنسِيَ قد يعود إلى الذاكرة بعد حين. وإذا كان النسيان دائما، فمعناه أن الشخصَ فقد الذاكرة. فهو مُصابٌ بمرض الزهيمر maladie d'alzheimer. ليس هذا هو موضوع هذه المقالة.
موضوع هذه المقالة، هو الكلمات التي دخلت في طيِّ النسيان ولم تعد تؤثث أحادبثنا اليومية. بل لم نعد نجدها إلا في فلتات اللسان وفي لغو السياسيين. ونِسيانُها قد يكون متعمَّدا أو غير متعمَّد. من بين هذه الكلمات، أذكرُ على سبيل المثال : المواطنة citoyenneté، حب الوطن patriotisme، النضال militantisme التضامن solidarité، التآزر mutualité، التعاون entraide، المحبة amitié، الأخوة fraternité، الإيثار altruisme، الإنسانية humanité، المصلحة العامة intérêt général، التضحية sacrifice، الاستقامة intégrité، النزاهة Probité... وباختصار، كل الكلمات التي تُعدُّ، في قاموس الإنسانية، قيمٌ أخلاقية سامية.
وفي هذا الصدد، قد يتساءَل كثيرٌ من الناس عن سببِ أو أسباب نسيان هذه الكلمات التي هي، في نفس الوقت، قيمٌ إنسانية وأخلاقية سامية.
وفي هذا الصدد، قد يتساءَل كثيرٌ من الناس عن سببِ أو أسباب نسيان هذه الكلمات التي هي، في نفس الوقت، قيمٌ إنسانية وأخلاقية سامية.
دون انتظارٍ ودون الخوضِ في المُقدِّمات، السبب الرئيسي هو السياسة، والسياسة كما هي مُمارسة اليوم في جميع أنحاء العالم. والسياسة، كما هي مُمارسة اليوم في جميع أنحاء العالم، تعتمد على النفاق والكذب والخِداع والقوة. النفاق والكذب والخِداع أصبحوا من مُسلمات postulats، أو لنقول من الشروط الضرورية لمُمارسة السياسة حالياً.
أما القوة، فهي كذلك من مسلَّمات مُمارسة السياسة حالياً، لكنها، وبتناقض صارخٍ، لا توجد إلا عند بعض الدول الديمقراطية. والغريب في الأمر أن هذه الدول الديمقراطية تستمد قوتَها من صناديق الاقتراع، أي، إن صح القولُ، من إرادة شعبية. وبما أن الأحزابَ السياسية هي التي تتبارى، أي تتنافس، من خلال صناديق الاقتراع، للوصول إلى السلطة، أي الوصول إلى تدبير الشأن العام، فالقوة تكتسبها هذه الأحزاب السياسية، المُدبِّرة للشأن العام، بكيفية دستورية، قانونية وديمقراطية. والأحزاب السياسية موجودة في الدول القوية وفي الدول الضعيفة. علماً أن الدولَ القويةُ، قوية باقتصادها، بعلمها، بتكنولوجياتِها، بصناعاتها، بثقافاتها، بجودة منظوماتها التَّربوية، الكلُّ متوَّجٌ بالقوة العسكرية. أما الدول الضعيفة، لا خِيارَ لها إلا أن تكونَ تابعةً للدول القوية، أو بعبارةٍ أخرى، ما عليها إلا أن تكونَ خاضعة للدول القوية لأنه ليس لديها ما تفرضه على الغير.
ولهذا، فالأحزاب السياسية، سواءً وُجِدت في الدول القوية أو في الدول الضعيفة، بمجرَّد ما تصل إلى السلطة، عن طريق صناديق الاقتراع، لتدبير الشأن العام، تنسى الكلمات (القيم) التي، لولاها، ما كانت ليكونَ لها وجودٌ في المشهد السياسي. تنسى قيمَ المواطنة وحب الوطن والنضال والتضامن والتآزر والتعاون والمحبة والأخوة والإيثار والإنسانية والمصلحة العامة والتضحية والاستقامة والنزاهة… وتُعوِّضها بما يفرضُه عليها الواقع المُعاش الذي يسيِّره حب الذات، وأعني هنا حب الذات الحزبية وحب الذات الفردية. كما تسيِّر هذا الواقعَ قيمٌ أخرى من قبيل النفاق والكذب والخِداع والتَّدليس والزبونية والمحسوبية…
كل شيءٍ يسير وكأن الأحزابَ السياسية التي دافعت عن القِيم الإنسانية والأخلاقية النبيلة، أثناءَ الحملات الانتخابية، ليست هي الأحزاب السياسية، نفسُها، التي تُدبِّر الشأن العام. بل إن الأحزاب السياسية المسئولة عن تدبير الشأن العام تنسى حتى إيديولوجياتها، هل هي يمينية أو يسارية أو وسطية أو ليبرالية أو اشتراكية أو ذات مرجعية دينية… إلى درجة أنها تصبح متناقِضة حتى مع تسمِياتِها المنبثقة، عادةً، من مبادئها الإيديولوجية.
وهذا النوع من الأحزاب السياسية موجودٌ في جميع بقاع الأرض. فمثلا، حزب الديمقراطيين في الولايات المتَّحدة ينسى أنه يدافع عن الديمقراطية ويُناصِر إسرائيل ظالمة أو مظلومة. وحزب الجمهوريين ينسى شعارَ البلاد الوطني الذي يقول in God we trust، أي نؤمن بالله والله لا يحب الظلم، ومع ذلك، يناصرون إسرائيل التي تظلم العالمَ كلَّه.
والحزب الاشتراكي الفرنسي الذي وصل إلى الحكم عدَّة مرات، ينسى أنه اشتراكي ويدبِّر الشأنَ العام حسب ما يفرضه الواقع الفرنسي الذي هو، بكل تأكيد، رأسمالي ليبرالي.
أما أحزابنا السياسية، في هذا البلد السعيد، فإنها، عندما تصل إلى الحكم، تنسى كل شيء. بل إنها تنسى حتى أنها أحزاب سياسية، وبالتالي، تنسى الإيديولوجيات والتَّسميات والمبادئ… لتصبحَ عبارة عن وسائل لا تتحرَّك إلا بالتعليمات الفوقية.
فكيف لهذه الأحزاب السياسية أن تتذكَّرَ قيمَ المواطنة وحب الوطن والنضال والتضامن والتآزر والتعاون والمحبة والأخوة والإيثار والإنسانية والمصلحة العامة والتضحية والاستقامة والنزاهة… بينما أن ما يشغل بالَها، لا علاقةَ له بتدبير الشأن العام. كل هذه القِِيمٌ لم تعد، في منظور الأحزاب السياسية، إلا مطيةً تركبها هذه الأحزاب للوصول إلى السلطة من أجل السلطة.
النسيان نِعمةٌ من نِعَمِ الله، سبحانه وتعالى، عندما يتعلَّق الأمرُ بنِسيان المصائب التي تحُلُّ بالإنسان. لكنه يصبِح نِقمة عندما يُتَعَمَّدُ نسيانُ القِيم الإنسانية والأخلاقية النبيلة. وهذا أمرٌ تُتقِنه الأحزاب السياسية بامتياز.