للمرة الثانية سأتطرق لهذا الموضوع لكن من زاوية مختلفة عن سابقتها... فكيف ذلك؟
في المرة السابقة، تحدثتُ عن عدم جدّية المنتظم الدولي عامةً، و"المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين" على الخصوص، والتي لا تأبه لمحتجزي مخيمات العار في تيندوف المحتلة، فلا هي سعت بجِدٍّ إلى إحصائهم والتعرّف على هُوِياتهم الأصلية، التي ينبغي لزوماً أن تتكوّن من أجزاءٍ متقاطعةٍ ومتكاملةٍ مع أصولِ وأنسابِ الصحراويين المغاربة أبناء قبائل الأقاليم المغربية الجنوبية، من كليميم إلى الغويرة، المتجانسة والمتآخية مع قبائل الشَّمال والوسط من موريتانيا؛ ولا هي حاولت جادةً أن تستعمل صلاحياتِها الدوليةَ لإرغام حكام الجزائر على فتح المجال أمامها على مصراعَيْه لتقوم بواجباتها في هذا الاتجاه... وبالتالي فإن هذه المفوضية تركت الحبل على الغارب لنظام جزائري سكيزوفريني يحتفي بازدواجية شخصيته، المتشكلة في الآن ذاته من جمهوريتين تُشكّلان وجهَيْن لعملة واحدة: جمهورية جزائرية ديمقراطية شعبية في شمال مقاطعة فرنسا الإفريقية؛ وجمهورية صحراوية ديمقراطية في جنوبها، ليس من غريب الصدف أن تحمل معها نفس الأوصاف المتجدّرة في تربة الحرب الباردة، والمستمِدة دلالاتِها من شعاراتِ ستيناتِ القرن الماضيّ الجوفاءِ والمُثيرةِ للسخرية... ولله في خلقه شؤونٌ وحِكَم!!
هذه المرة، سأركّز على فكرة الاستفتاء، الذي كان المغرب أوّل داعٍ إليه في مؤتمر نيروبي سنة 1981، عندما أعلن جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني عن استعداده لتنظيمه لكن، شريطة أن يتم ذلك بعد أربعة أشهر من يوم عودته من ذلك المؤتمر، وليس أكثر، اجتناباً لأيّ تلاعب بآليات التنفيذ، ولأيّ تَدَخُّلٍ لجهات أخرى غير معنية مباشرة بالملف، في إشارة إلى الجزائر، التي كانت تردد وتعيد أسطوانتَها المشروخةَ حول كونها "مجرد مراقب" وليس أكثر، وبكونها ليست معنية بالملف إلا من حيث قربُ فضائه الجغرافي من حدودها الجنوبية الغربية...
أما مبرر هذه العودة إلى موضوع الاستفتاء، فمَردّه إلى أن الجزائر ولقيطتها الجنوبية لا تفتآن تتمسكان بهذه الآلية إلى غاية يومِه رغم ثبوت عدم جدواها، وثبوت استحالة تطبيقها على أرض الواقع، لكن لماذا؟
أولاً: لكون المعنيين بالاستفتاء في مخيمات تيندوف أنفسهم لم يبق منهم هناك سوى آلاف معدودة، مادام هؤلاء حسب آخر إحصاء إسباني لم يزل منهم على قيد الحياة بعد مرور نصف قرن على هذا الأخير إلا قلة قليلة؛
وثانياً: لأن نحو تسعين في المائة من الصحراويين المعنيين بالاستفتاء يعيشون داخل التراب المغربي الجنوبي، يمارسون فيه كل حقوقهم المواطِنة، يدبرون شؤونهم بأنفسهم، ويختارون منتخبيهم بكل حرية، بل الأكثر من ذلك والأروع، أنهم حققوا نِسَباً قياسيةً من المشاركة في الاستحقاقات التشريعية الأخيرة لم تحققها أي جهة أخرى في مجموع تراب المملكة (68% من الكتلة الناخبة بتلك الأقليم)!!
فضلا عن هذا، فالتقديرات الأخيرة التي أصدرتها الجهات الدولية المختصة تتحدث عن وجود 500 ألف مواطن صحراوي، 400 ألف منهم يعيشون داخل التراب الوطني المغربي؛ ونحو 100 ألف على أكبر تقدير، وهذا الرقم فيه الكثير من النفخ والتضخيم، يعيشون بمخيمات تيندوف، وأن نسبة قليلة من هؤلاء الأواخر هم الذين يمكن أن يشاركوا في أي استفتاء محتمل...
لكن الواقع يبقى بعيداً كل البعد عن هكذا احتمالات، لأن فكرة الاستفتاء ماتت وأُهِيلَ عليها ترابُ النسيان منذ أكثر من عشرين سنة، ولأنها صارت في حكم المستحيل منذ نحو سبع عشرةَ سنة، يوم أودع المغرب لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن مقترحه للحكم الذاتي (2007)، الذي أصبح منذ ذلك اليوم حديث الخاص والعام في كل ربوع المعمور، بل صار الحجر الأساس في كل ما صدر عن الهيأة الأممية من توصيات، وعن مجلس الأمن من قرارات، تشيد كلها بمشروع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وتعتبره الحل السياسي المتّصف بالموضوعية والمصداقية والواقعية...
ولا ريب أن القرار الجديد، المنتظَر صدوره عن مجلس الأمن بعد أيام معدودة، سيسير في نفس الاتجاه، بل من المتوقع أن يكون أكثر خدمةً للطرح المغربي، وأشدّ زلزلة لأعداء وحدتنا الترابية ولقيطتهم الإرهابية، ولكل من لا يزال يدور في فلك رشاويهم المسروقة من قوت الشعب الجزائري، كجنوب إفريقيا، وكوبا، ودول أخرى في غاية الضعف والحاجة إلى السَّفَهِ الجزائريِّ القياسيّ!!
والآن، لو افترضنا أن آلية الاستفتاء أعيدَ بَعثُها من جديد، وأن المشاركين فيه من أبناء الصحراء المغربية سيمارسون هذا الاختيار بمشاركة الكتلتين السُّكّانيتين المقيمتين في كل من أقاليمنا الجنوبية ومخيمات الذل والمهانة بتيندوف... فهل سيقبل نظام العجزة المرضى في المراديا بنتيجةٍ من الأكيد أنها ستصب في تكريس مغربية الفِئتَيْن معاً، وهو الذي قرر بغبائه المشهود مصير محتجزيه مُسْبَقاً، فأنشأ لهم جمهورية فضائيةً بكل دلالات الكلمة، ثم تجاوز ذلك إلى الحصول لها على صفة "العضو المؤسِّس" في الاتحاد الإفريقي، البديل المشوَّه والمحرَّف عن منظمة الوحدة الإفريقية، فقطع السبيل بذلك على أيّ استفتاء مازال يتغنى به، وعلى أيِّ تقرير مصير لم يعد له أدنى معنى، بعد أن تحقق على أرض الواقع داخل مخيمات الذل بتيندوف المحتلة، بقرار أحادي من المقبور بوخروبة، الذي أراد أن يجعل من هذا الوليد المشَوَّهِ حصاةً موجعةً في الحذاء المغربي، فإذا به في واقع الحال قد حوّله إلى شوكةٍ كَأْداءَ في حلق جزائر ما فتئت تسير من سيّئ إلى أسوء، ومن فشل إلى أفشل، ومن خسرانٍ لِأخسرَ منه... إلى ما شاء الله!!
وبالرغم من كل هذا السواد في الحال والمآل، ما زالوا يتحدثون أمام ضَحِكِ العالم وسُخريته وتأفّفه عن شيء اسمه "الاستفتاء"... "شاي الله أسيدي الاستفتاء"!!!