تساءل الأستاذ خالد الادريسي، المحامي بهيئة الرباط، إن كان يمكن القول على أن ماورد في بلاغ مراكش، بمقاطعة جلسات الجنايات، لم يكن بهاجس مواجهة الدولة ونية إخضاعها، ولكنه جاء في إطار الخوف من غضب القاعدة وجموع المحامين الذين سمعوا كلاما قويا ومجلجلا عن قوة المحاماة وقدرتها على المواجهة والتأثير في اطار الملتقى المهني الذي احتضنه مسرح محمد الخامس بالرباط. وأضاف العضو السابق في مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب، أن المزيد من التصعيد لن يفيد، لأنه لن يضر بالدولة ويخضعها، بقدر سيضر بمصالح المحامين الذين يعانون من أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.
فيما يلي وجهة نظر الأستاذ خالد الإدريسي، في موضوع الشكل الاحتجاجي الذي تخوضه جمعية هيئات المحامين، والذي سيدخل أسبوعه الثاني على التوالي:
أصدرت جمعية هيئات المحامين بالمغرب بلاغ مراكش الذي تمخض عن اجتماع مكتب الجمعية المنعقد بتاريخ 03/10/2024 ، الذي قرر اعتماد اليات تصعيدية وفق برنامج نضالي تصاعدي يتمثل في مقاطعة الصناديق وجلسات الجنايات ووقفات لمدة ساعة كل يوم خميس طيلة هذه المدة الذي حدد له أجل زمني لا يتجاوز 15 يوما. وهذا البلاغ بكل الحمولة النضالية والتصعيدية التي جاء بها كان بمثابة رد فعل طبيعي على ما ترتب عن اللقاء المهني الوطني الذي انعقد بمسرح محمد الخامس، والذي عرف حضور مكثف من قبل الزميلات والزملاء عبر ربوع الوطن وتم التعبير فيه عن خطاب قوي رفع من حجم التحديات وسقف الطموحات. ولذلك ظل الجميع ينتظر لحوالي أسبوعين من الزمن من أن ينعقد اجتماع مكتب الجمعية بمراكش ليصدر بلاغ مراكش وفق الصيغة النضالية التي يستشف منها على أنها خطوة أولى ضمن مسار تصعيدي ونضالي مستمر سيشهد خطوات وآليات نضالية أخرى، قصد التأثير على توجهات الدولة والمؤسسات المقررة في التدابير والسياسات العمومية التي تهم مجال العدالة عامة ومهنة المحاماة على وجه الخصوص.
في حقيقة الأمر فإنه بالتأمل في مسار الأزمة التي تعيشها مهنة المحاماة منذ أن تم تعيين عبد اللطيف وهبي على رأس وزارة العدل سواء مع مكتب الجمعية السابق أو الحالي، وبالتمحيص في ما وصل اليه الحوار من تجميد بين ممثلي الجسم المهني للمحاماة والدولة ووزارة العدل، وبتقييم مختلف المبادرات التي اتخدها مكتب الجمعية من أجل تدبير الأزمة المهنية والحفاظ على الحقوق والمصالح الفردية والجماعية للمحامين، فإنه يتبين على أن هناك سؤالين طويلين وعريضين يطرحان نفسيهما بشدة في سياق معرفة طبيعة الأزمة، وأسبابها ومدى حكامة ونجاعة تدبيرها من طرف الجمعية وباقي المؤسسات المهنية المسؤولة عن تدبير الشأن العام المهني الوطني والمحلي.
السؤال الأول المطروح يتعلق بما بعد 18 أكتوبر 2024 باعتباره التاريخ التي سينتهي خلاله مفعول هذه الاليات النضالية الأولية؟ أما السؤال الثاني فهو تمحيص حقيقة وجود ملف مطلبي شامل ومتكامل وغير قابل للتجزيء كأساس يعتمد عليه من أجل الترافع مع الدولة وأجهزتها ومؤسساتها كما ورد في هذا البلاغ؟
جوابا على السؤال الأول المتعلق بماذا بعد 18 أكتوبر 2024 تاريخ انتهاء أجل 15 يوما المحدد في بلاغ مراكش الذي حدد ثلاث آليات فقط ضمن هذا البرنامج النضالي الأولي وهي مقاطعة الصناديق ومقاطعة جلسات الجنايات والقيام بوقفة كل يوم خميس، وبغض النظر عن التقييم الأولي لتنزيل هذه الاليات الذي انتابته العديد من المعوقات لاسيما على مستوى الصناديق التي، وإن امتنع أغلب المحامين من الأداء على ملفاتهم فإن الكثير منهم ظلوا يستعملون المنصة الرقمية والأداء الإلكتروني من أجل الأداء عن مقالاتهم وطلباتهم، ناهيك عن تساؤل الكثيرين عن جدوى الامتناع عن أداء هذه الرسوم والمبالغ طيلة 15 يوما، مادامت ستؤدى كاملة بعد هذا الاجل وبالتالي فإنها لن تؤثر على ميزانية الدولة مادام أنها لن تحرم من أصلها ولكنها فقط ستحرم من تعجيل أدائها، وبالتالي فإنها بهذا الإجراءات لن تؤثر على الموازنة العامة للدولة ولن تثنيها عن القيام بمشاريعها ولن تعطل أي مصلحة من مصالحها.
أما بالنسبة للوقفات فقد كانت في الأغلب الأعم وقفات باهتة على مستوى جميع الهيئات ولم تعرف تلك التعبئة القوية والكثافة الحضورية التي كان من المفروض أن تكون تعبيرا عن الغضب المهني الذي ينتاب الجسم المهني للمحاماة أفرادا ومؤسسات. ويبقى الشكل النضالي الوحيد الذي تم تنزيله بكل التزام هو مقاطعة جلسات الجنايات، مع الإشارة إلى أن التأثير الذي يمكن تخلقه هذه الآلية في مواجهة الدولة لن يكون صادما وقويا إلى درجة يستطيع المحامين من خلالها إجبار الدولة على الرضوخ لمطالبها، لا سيما أن الجلسات سيتم تأخيرها الى ما بعد 15 يوما من التوقف وسيتم تجهيز الملفات والبت فيها بشكل عادي وبدون تأثير على سير المحاكمات الجنائية.
أظن على أن الوضع أصبح يفرض علينا في الوقت الحالي التحدث بصراحة وشفافية، حول وضعنا المهني الحالي من خلال معرفة الأسباب الحقيقية الذاتية والموضوعية التي تكرس أزمتنا المهنية وتجعلنا الى حدود الآن غير قادرين على الخروج منها أو التعامل معها بشكل يحفظ مكتسباتنا ولا يهدم ثوابتنا الأساسية. وفي إطار التأصيل لهذا الإشكال من المهم جدا أن نطرح مجموعة من التساؤلات الأولية من قبيل هل هناك قناعة لدى المحامين افرادا ومؤسسات وعلى رأسهم جمعية هيئات المحامين بالمغرب بفعالية ونجاعة الآليات النضالية والتصعيدية الواردة في بلاغ مراكش؟ ألا يمكن القول على أن ماورد في بلاغ مراكش لم يكن بهاجس مواجهة الدولة ونية إخضاعها، ولكنه جاء في إطار الخوف من غضب القاعدة وجموع المحامين الذين سمعوا كلاما قويا ومجلجلا عن قوة المحاماة وقدرتها على المواجهة والتأثير في اطار الملتقى المهني الذي احتضنه مسرح محمد الخامس بالرباط ، ولم يكن من الممكن الرجوع إلى الوراء وتبني خطاب ترافعي هادئ بعيد عن التصعيد ؟ ثم ألا يمكن القول على أن مواقف الجمعية في اطار بلاغ مراكش كانت بالأساس مؤسسة على ما يمكن أن نسميه الخوف الوجودي الذي يتهددها عن طريق بروز قوى مهنية أخرى تحاول منافستها وتقاسمها تدبير الأزمة معها كفيدرالية المحامين الشباب بالمغرب والتنسيقية التي ظهرت فجأة وطالبت بالتصعيد المطلق والشامل ؟
لا يمكن الدخول أكثر في نوايا مكتب الجمعية من أجل البحث عن ظروف وملابسات هذا هذه المواقف، ولكن يظهر من باب قراءة السياقات العامة والخاصة المرتبطة بكل هذه الاحداث التي طغت على الساحة المهنية في الشهور الأخيرة ، على أن الجمعية كمسؤولة عن التنسيق بين الهيئات والتفاوض باسمها مع الدولة قد وصلت الى الباب المسدود بفعل تنطع السيد وزير العدل، ورفض أي جهة أخرى حكومية من أن تعين نفسها كمخاطب بديل ولا سيما مؤسسة رئيس الحكومة التي تعتبر على أن هذا الصراع هو صراع خاص بين وزارة العدل وقطاع المحاماة. وبالتالي فقد ظهر بشكل جلي أنه لا مجال لمواصلة أي حوار مادام أن الحكومة تعتبر نفسها قوية لكونها هي من تبلور القوانين والتشريعات وايضًا لان لها أغلبية مريحة داخل البرلمان تستطيع من خلالها تمرير أي مشروع او مقترح قانون والمصادقة عليه، وتجد أيضا على أنها ليست في حاجة إلى اجراء حوار جدي ومسؤول مع أي قطاع او مهنة، إلا إذا كان من باب تطبيق المقاربة التشاركية الشكلية التي تعني الاجتماع والاستماع إلى المطالب وتسلم المذكرات الترافعية ولا تطبق منها أي شيء أو تستجيب فقط الى بعض الأمور غير الجوهرية التي لا تتعلق بصلب الإشكاليات المطروحة. وهذا المعطى جعل ممثل الشأن المهني الرسمي على المستوى الوطني يعلم تماما انه لا يستطيع فرض أي شيء على الدولة، إذا لم تفتح معه مجال الحوار الذي مازال منغلقا الى حدود اللحظة، وتعلم انه ليس لديها من خيار آخر سوى التصعيد ليس لحل الأزمة المهنية بل إلى التصعيد الشكلي من أجل تهدئة الرأي العام المهني وايضاً تحصين نفسها من تهم الانبطاح والضعف وعدم القدرة على الدفاع عن مصالح المهنة، واخيراً تخفيف الضغط الذي تمارسه بعض الجمعيات المهنية التي تحاول تقديم نفسها كبديل لقيادة النضال المهني ومواجهة الدولة باليات تصعيدية أكثر جرأة وشجاعة .
أما فيما يتعلق بالتساؤل الثاني المرتبط بمدى وجود ملف مطلبي متكامل وغير قابل للتجزيء كما جاء في بلاغ الجمعية، فإن هذا الموضوع يثير العديد من التساؤلات حول حقيقية وجود هذا الملف المطلبي؟ وهل يمكن ان تعتبر جلسات تفاوضية عامة لا تتوج بمحاضر موقعة من الطرفين المتفاوضين بمثابة ملف مطلبي؟ وهل مجرد مذكرة ترافعية وحيدة حول مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية تشكل ملف مطلبيا متكاملا وشاملا؟
يجب ان لا نجازف ونقول على انه لم ينجز أي شيء، لأنه على مستوى جميع مكاتب الجمعية انجزت أشياء مهمة على المستوى الحقوقي والقانوني، والدليل على ذلك أن المذكرة الترافعية المتكاملة التي قدمت في موضوع مشروع قانون المسطرة المدنية كانت من إنجاز مكتبي الجمعية السابقين وأضيفت اليها مذكرة ملحقة جادة عن طريق مكتب الجمعية الحالي. وايضاً كانت هناك مذكرة ترافعية متميزة أنجزت بشراكة بين مكتب الجمعية السابق ورئيس التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب في موضوع الحماية الاجتماعية والتي كانت سببا أساسيا في الحفاظ على مكتسب التعاضدية والانفلات من الاحكام والمقتضيات الواردة في قانون الحماية الاجتماعية التي كانت لا تتناسب مع مهنة المحاماة من خلال مساسها بثوابتها الأساسية المتعلقة بالحصانة والاستقلالية. ولكن هل كانت لدينا بالفعل مذكرات ترافعية أخرى في باقي المجالات المرتبطة بمهنة الدفاع سواء ما تعلق منها بقانون مهنة المحاماة الذي يعتبر اهم قانون ينظم وضعيتنا المهنية والقانونية والحقوقية، وهل كانت لدينا مذكرات في مسودة مشروع قانون المهن القانونية والقضائية وكتابة الضبط، وفي المجال الضريبي وفي القانون المتعلق بغسل الأموال وفي مشروع القانون المنظم لمهنة المفوضين القضائيين وفي بعض القوانين الأخرى التي تلامس وتمس اختصاصاً من اختصاصات مهنة المحاماة.
من الأكيد على أن الجواب سيكون بالسلب لانه لم يتم إنجاز أي شيء بهذا الخصوص رغم التأثير المباشر وغير المباشر على ماورد في هذه المسودات والمشاريع والقوانين من مقتضيات على مهنة المحاماة وجودا وممارسة. وهنا يمكن لنا ان نكون قناعة راسخة على أنه لم تكن لدينا أبدا سواء في مكتب الجمعية الحالي أو في المكاتب السابقة ملف مطلبي متكامل وغير قابل للتجزيء يتناول جميع القوانين والتدابير المتعلقة بمهنة المحاماة في اطار مبادرة استباقية تهتم بالفعل في اطار تصور شمولي لدور مهنة الدفاع في ظل المتغيرات السياسية والقانونية الوطنية والدولية، وفي اطار اعمال قوة اقتراحية جريئة وشجاعة تنبني على الأساسيات التي تنطلق منها المهنة والإكراهات التي تعاني منها. وانه للأسف بقي الترافع وظلت المطالب مجتزأة في مواضيع كانت الدولة هي السباقة إلى المبادرة اليها وليس نحن، وبقينا حبيسي رد الفعل او عدم الانتباه او الاهتمام او عدم المواكبة المطلوبة ، ليس فقط من طرف المؤسسات المهنية التي تدير الشأن العام المهني، ولكن حتى على مستوى المحاميات والمحامين كأفراد الذين يتحملون مسؤولية عدم الاهتمام بالقضايا المهنية العامة وتركيزهم على فقط على مكاتبهم وعملهم الفردي والشخصي.
ولذلك، فبعد كل ما أثير أعلاه، إذا اردنا الإجابة عن التساؤل الأساسي المتعلق بماذا بعد بلاغ الجمعية المعلن عنه في اجتماع مراكش؟ فإنه يمكن التأكيد على أنه لا يمكن انتظار خضوع الدولة واستجابتها للمطالب الجزئية التي طرحتها عليها جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وأن المزيد من التصعيد لن يفيد لانه لن يضر بالدولة ويخضعها بقدر سيضر بمصالح المحامين الذين يعانون من ازمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة. فالتوقف الشامل عن العمل ولو لمدة أسبوعين آخرين كآخر واقوى الآليات التصعيدية التي يمكن استعمالها سيزيد من هذه الأزمة، كما ان فئات عريضة من الزميلات والزملاء لا تستطيع التوقف كل هذه المدة لاسباب اقتصادية واجتماعية، وايضاً لعدم وجود ملفات مطلبية واضحة ودقيقة يمكن ان تضحي من اجلها وتساهم في الضغط على الدولة قصد تبنيها. وهو ما يجعلنا امام خلاصة رئيسية وجوهرية تتعلق بكون النهج الترافعي الذي يجب تبنيه يجب أن يتطور في اتجاه عدم التركيز على الرفض والممانعة والاحتجاج والشعارات فقط ، ولكن يجب أن ينبني على المبادرة والاقتراح في اطار ملف مطلبي شمولي يؤسس لمحاماة المستقبل من جميع الجوانب القانونية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية ، مع تحديد الأولويات من الناحية الموضوعية والزمنية ، وإشراك الفعاليات السياسية والحقوقية والجمعوية في هذا الترافع وإقناعهم بأن المعركة ليس معركة قطاعية أو فئوية ولكنها معركة مجتمعية تتعلق بالتأسيس لحق الدفاع والمحاكمة العادلة والديموقراطية وحقوق الانسان.