الأربعاء 5 فبراير 2025
فن وثقافة

أصول تراث التّْبَوْرِيدَةْ المغربية بصيغة الجمع ومواصفات ومهام فارس "الْفَرَّادِي" قديما

أصول تراث التّْبَوْرِيدَةْ المغربية بصيغة الجمع ومواصفات ومهام فارس "الْفَرَّادِي" قديما تراث فن التبوريدة المغربي المتعدد الروافد والخصوصيات الاجتماعية والبيئية والطبيعية

كانت الخيل لـ "الشُّجْعَانْ" ووسيلتهم للدفاع عن الأرض والإنسان

برزت ألعاب وفنون رياضة الفروسية التقليدية بالمغرب خلال القرن الخامس عشر الميلادي، على اعتبار أن هواية ركوب الخيل، كانت ومازالت تعكس تمثلات الإنسان المغربي وهو يسترجع ذاكرة الشُّجْعَانْ في زمن الدفاع عن أرض القبيلة، وضمان الأمن والإستقرار والحياة الكريمة، وصدّ العدوان الغاشم وتحرير الثغور من المحتل الأجنبي على صهوات الخيول التي كانت هي الوسيلة الوحيدة لهذا الغرض، حيث بدأت تتشكل مظاهر الفرجة التي يقيم لها المجتمع مناسبات احتفالية خاصة، من أجل الإستمتاع بعروض الفرسان المجندين، على متن صهوات الخيول قبل ظهور مادة البارود.

عروض استعراضية وفرجوية تحاكي زمن الحرب

 كان فرسان القبائل يقدمون عروضهم الاستعراضية والفرجوية أثناء التداريب العسكرية بالنبال والحراب وأسلحة أخرى ويتنافسون على إصابة الهدف ـ الرماية ـ قبل استعمال سلاح البنادق ومادة البارود خلال القرن السادس عشر، حيث كانت عروض الفروسية حينئذ تحاكي مشاهد الحروب، والهجمات العسكرية التي شهدتها القبائل المغربية، لذلك فلا غرابة أن ظاهرة الفروسية التقليدية كانت تمارس أيضا في عدة مناطق بالمغرب الكبير الممتد إلى حدود شمال إفريقيا.

من المعلوم أن الحاجة إلى تعزيز صفوف الجنود والفرسان حينئذ قبل أن تأسيس الجيش النظامي بالمغرب كانت تستلزم انضمام أغلب الفلاحين والمزارعين والصناع التقليديين والحرفيين والصيادين المهرة بدعوة من المخزن المركزي والمحلي، بعد أن يمرّوا طبعا من تداريب مكثفة على يد رجال مختصين، سواء على مستوى ركوب الخيل أو الرماية وحمل السلاح والمناورة وأساليب الدفاع عن الأرض والنفس.

إن عروض التبوريدة الأصيلة في زمننا هذا، والتي تحاكي فعلا، دقة تفاصيلها، وقوة خيولها العربية والعربية البربرية، وشجاعة فرسانها وألعابهم وحركاتهم وتقنياتها وصيحات فرسانها المبهرة، مشاهد وصور من الحروب السابقة والهجمات العسكرية التي شهدها المغرب، وتؤرخ في نفس الوقت لزمن الْحَرَكَاتْ السُّلْطَانِيَّة.

هكذا حافظنا على صناعتنا التقليدية ذات الصلة بالفروسية

كانت العروض الفرجوية للفرسان على صهوة الخيول سابقا خلال مناسبات دينية معلومة ـ عيد المولد النبوي وعيد الفطر وعيد الأضحى ـ تستقطب خلال تنظيمها وإقامتها بمجالات القبائل المغربية، أغلب الصناع التقليديين والحرفيين الذين لهم ارتباط مباشر بمختلف المنتوجات ذات الصلة بالفروسية وأسلحتها وزينتها، والتي تتقاسم فيما بينها استعمال مواد أولية من قبيل مادة الجلد / الدباغة، ومادة الخشب / النجارة، ومادة النحاس والحديد والفضة/ الحدادة/ السباكة/ النقش والخياطة...كل هؤلاء الحرفيين والصناع التقليديين كانوا يجدون الفرصة مواتية خلال الاحتفالات والمناسبات الدينية لتقديم أرقى وأجود ما جادت بها أناملهم الساحرة من منتوجات تقليدية، وكان الهدف من ذلك أن يكشفوا على مدى إتقانهم وتمكنهم من حرفهم وإبداعاتهم ومواكبة جديد صناعاتهم الراقية.

حرفيين وصناع تقليديين انتصروا للفروسية التقليدية

لقد كانت المنافسة الشريفة بين هؤلاء الحرفيين والصناع التقليديين خلال تلك المناسبات والاحتفالات الدينية على مستوى المنتوجات الجيدة، من أجل توفير كل جديد يخص مستلزمات الفروسية والمساهمة في تطويرها وتثمينها وتحصينها بعشق كبير، سواء كانوا وافدين من المجالات القروية المحيطة بمجال القبيلة، أو قادمين من حواضر المدن المغربية، حيث كانت الفرصة سانحة لعرض منتوجات الحرفية: السّرج الأصيل، والْمُكَحْلَة، والْخَنْجَرْ، والسِّكِّين والنِّعَالْ و "التّْمَاكْ" والشْكَارَة، علاوة عن اللباس والزي التقليدي الذي يليق بالفارس، وكانت فعلا هذه اللحظات فرصة إشهارية لتقديم وترويج المنتوجات المجالية والتباهي بجودتها وأصالتها.

أصل فن ورياضة التبوريدة تداريب حربية

من هذا المنطلق فقد ظهر نشاط فن ورياضة التبوريدة بالمغرب بالتدرج، من خلال التداريب التي كان يقوم بها الفرسان الشُّجْعَانْ أمام جمهور القبائل الوافد سواء من الجبل أو المدشر والدوار، أثناء فترات الهدنة والتهدئة واستراحة المحاربين، حيث كانت القبائل في هذه الفترات تخصص أياما لتداريب ركوب الخيل والرّماية أمام قياد وأعيان المنطقة، من أجل صقل مواهب الفرسان، وتحسين مهاراتهم وحركاتهم على صهوة الخيول، واكتشاف نقط قوتهم، ويقظتهم في الميدان. بل كان يشارك في هذه المناسبات حتى الأطفال والشباب لترسيخ قيم الشجاعة والدفاع عن حوزة الوطن.

أصول "التبوريدة" من القبيلة إلى العالمية

في هذا السياق نشاهد ونتابع اليوم كيف سُلّطت الأضواء على تراث فن التبوريدة المغربي المتعدد الروافد والخصوصيات الاجتماعية والبيئية والطبيعية، وكيف أخذ يحظى بالاهتمام والزخم الكبير ضمن أجندة الدولة المغربية، دون الحديث عن شهرته العربية والإفريقية والعالمية ـ من القبيلة إلى العالمية ـ خصوصا بعد أن تم إدراجه كعنوان بارز ضمن قوائم التراث اللامادي الإنساني بمنظمة اليونيسكو، مما يتعين معه البحث في أصول "التبوريدة" كرياضة وفن شعبي موروث منذ عدة قرون، وتوثيق كل تفاصيله الدقيقة، ومدارسه وطرق اللعب بالمكاحل على صهوة الخيول وكيفياتها، وذلك لن يتأتى إلا على لسان الشيوخ والرواد، وما يقدمونه من روايات شفهية، واستنادا أيضا إلى الوثائق التاريخية والظهائر السلطانية.  

سجلنا ونحن نقتفي تراث الفروسية التقليدية بالمغرب، أن هناك إجماع على أن فن ورياضة التبوريدة قد انبثق من أوساط تداريب الفرسان العسكرية ـ الرماية وركوب الخيل ـ على اعتبار أن أغلب القبائل كانت تُوَجَّهُ لها الدّعوة من طرف المخزن المركزي والمحلي، للمشاركة والمساهمة في الرّْكَبْ ولَمْحَلَّاتْ السلطانية، سواء لتفقد أحوال القبائل هنا وهناك وفض النزاعات والخلافات فيما بينها، أو من أجل إخماد الفتن وبعض الثورات أو التصدي للغزاة والمحتل الأجنبي.

لقد كان من بين المشاركين ضمن جنود القبائل في رْكَبْ ومْحَلَّاتْ السُّلطان من عدة مناطق مغربية مثلا: ـ دكالة / عبدة / أحمر / الشياظمة / الرحامنة / الشاوية ـ حيث كان يتطوع للمشاركة، الفلاح والتاجر والحرفي والصانع والصياد وأفراد من مهن أخرى، وطبعا بعد خضوعهم للتداريب العسكرية خلال فترات الهدنة والسّلم، وتعليمهم الجيد الرماية وركوب الخيل. وقد كان يصل عدد المشاركين عن كل قبيلة ما يفوق 5000 فارس وفرس.

ماذا كان يفعل الفرسان خلال فترات السلم والهدنة؟

خلال فترات السلم والهدنة، وحين كان يتم القضاء على بعض التمردات والفتن والثورات التي تطفو على السطح هنا وهناك، أو عودة الفرسان من ميدان الحروب والهجومات ضد المحتل للثغور المغربية، فقد كان من اللازم على الفرسان أن يبقوا في لياقتهم البدنية، متيقظين حذرين من كل مباغتة للعدو المفترض، وكان أيضا من اللازم ألا تبقى خيولهم مربوطة ومحبوسة في إسطبلاتها دون حركة، لذلك اختارت القبائل أن تقيم فترات خاصة للتداريب العسكرية لفرسانها خصوصا المتطوعين من الفلاحين والتجار والحرفيين والصناع التقليديين، تحسبا لأي دعوة من الخزن المركزي تستدعي الانضباط للقرار السلطاني.

المناسبة شرط و "التبوريدة" خيط ناظم لتعزيز قيم الوطنية

وكما قلنا سابقا فهذه التدريب كانت قد اقترنت بفترات الأعياد الدينية كما ذكرنا أعلاه، لأن المجتمع المغربي ظل منذ قرون متمسكا بكل تعاليمه الدينية الإسلامية، عاطفيا وروحيا ووجدانيا، بالإضافة إلى أن هذه المناسبات كانت تمثل عطل سنوية استثنائية تمتد لأسبوع أو أسبوعين، مما كان يعزز من الروابط الاجتماعية والإنسانية ويرسخ القيم الدينية واللحمة الوطنية، بل أن هذه العطل الدينية كانت مناسبة لإقامة الأعراس والحفلات وتقديم الذبائح للصلح بين القبائل، ومد جسور التواصل بينها لتجديد اتفاقات وعقود ذات المنفعة العامة.

كانت هذه المناسبات وإلى حدود يومنا هذا، فرصة سانحة لصناعة الفرجة ورسم الابتسامة والفرح على وجوه الناس من مختلف الفئات الاجتماعية، من خلال إقامة وتنظيم عروض التبوريدة وسط القبائل وألعاب مبهرة، والتي كان يشارك فيها الفرسان الشجعان على صهوة خيولهم العربية، والعربية البربرية الْمُسَنَّحَةْ بأجود وأرقى الْأَسْنِحَةْ، فرسان مدثرين بأرقى الألبسة والأزياء التقليدية، متأبطين بنادقهم المحشوة بالبارود، وخناجرهم، ودليل الخيرات. وعبر هذا المسار الاحتفالي كانت اللحظة فرصة سانحة للتداريب والتمارين الحربية، وإظهار المهارات والتمكن من الرماية وركوب الخيل.

وتستمر حكاية سنابك الخيل والبارود

لقد استمرت هذه الظاهرة الفرجوية المناسباتية في أوساط المجتمع وخصوصا في البادية المغربية، ومازالت حاضرة بقوة في بعض المناطق، حيث يلتقي أبناء القبيلة في هذه المناسبات الدينية، قادمين من مدنهم التي استقروا بها رفقة أسرهم، ويجتمعون تحت سقف ّشيخ التبوريدة" لربط جسور التواصل والحفاظ على هذا الموروث الثقافي الشعبي الذي أضحى تراثا لامادي تم تثمين وتحصين كل مكوناته تاريخيا، في علاقة وطيدة بطقوسه وعاداته وتقاليده العريقة، حيث يتم تنظيم عروض التبوريدة لإمتاع الساكنة بجمال الخيول وشجاعة الفرسان، وتميز الزي واللباس التقليدي، ولو اقتضى الأمر امتطاء صهوات الخيل بدون إطلاق البارود لعدة اعتبارات ذات الصلة بالقانون.

في الحاجة إلى إحياء عروض التبوريدة بصيغة "الْفَرَّادِي"

إن الفارس المقدام والشجاع في زمننا هذا، والذي يقدم عروض التبوريدة وحيدا وسط الْمَحْرَكْ أمام الجمهور سواء في المهرجانات أو المواسم الوطنية والمحلية، وقد يشاركه في هذا العرض الشيّق والمبهر، فارسا آخر أو فارسين فإنهم يمارسون طقس "الْفَرَّادِي" أو ما يسمى بـ "التَّفْرَادْ" ـ على الطريقة الناصرية، أي نسبة إلى الأخوين سيدي أحمد بن ناصر وسيدي علي بن ناصر. لكن إذا تفحصنا أوراق التاريخ التليد، فإننا نجد أن الفارس / الوحيد الذي يطلق عليه "الْفَرَّادِي" له مرجعية تاريخية، واشتهر بمهام صعبة اختير لها سابقا، كيف ذلك؟

ما هي مواصفات ومهام الفارس/الْفَرَّادِي؟

ـ الفارس الْفَرَّادِي حسب المعلومات التاريخية المتوفرة لنا، هو الفارس الذي يتقن ويجيد ركوب صهوة الخيل بتبات وعزيمة، سواء كان الحصان بسرجه "مْسَنَّحْ" أو بدون سرج "مَلَّاطِي"، والمحافظة على قوّته ولياقته البدنية، ويحسّ بنبض قلب جواده الثائر في وقت الشدّة، بل أنه يشعر بحاجاته ومتطلباته اليومية ـ مرض وجوع وعطش ـ

ـ الفارس/الْفَرَّادِي هو الرجل المتخصص في استكشاف المجالات الجغرافية قبل خروج فيالق الركب والمحلة السلطانية، وسط الغابات، والسهول والفيافي، باعتباره كان متمكنا بنباهته ويقظته وتجاربه الميدانية من اقتفاء أثر سنابك الخيل سواء في الصحراء وسط الرمال، أو معرفة أثر أقدام العدو المتربص، وهو أيضا الفارس الذي كان متمكنا من ضبط الطرقات الوعرة في التلال والهضاب وممرات الجبال الموحشة والصعبة، وله القدرة على المناورة والاختفاء والتخفّي، وعدم السّقوط في شباك الأعداء وقطاع الطرقات، بالإضافة إلى أنه كان يكشف بحنكته فخاخ وكمائن وتربصات العدو.

ـ الفارس/الْفَرَّادِي كان يُقَلَّدٌ بالمهام الصعبة أيضا، حيث كان يتحمل مسؤولية حمل الرسائل قديما، وتبليغها لمن يهمه الأمر وهو يقطع المسافات الطويلة على صهوة الحصان، بعيدا عن الأعين والمتربصين والمتلصصين والجواسيس. فمثلا خلال فترة الدولة الموحدية كان حامل الرسائل السلطانية يقطع مسافة كبيرة من فاس نحو مراكش بل قد يتعدى الأمر إلى القيروان لأنها كانت تابعة لحكم الإمبراطورية المغربية، أو حدود مصر وصحراء برقة ـ أي ليبيا حالياـ

ـ الفارس/ الْفَرَّادِي حامل الرسائل والأخبار، كان يتم اختياره من بين الفرسان، كونه يمتاز بمواصفات نادرة واستثنائية جدا، مثل الأمانة والثقة، حيث كان يقوم بمهمته الحسّاسة وحيدا دون مساندة أحد، حتى لا يثير شكوك وانتباه الأعداء، ويستطيع إيصال وتبليغ وتنفيذ المهمة رغم الأخطار الكثيرة المحدقة به على الطريق، دون الحديث عن تقلبات أحوال الطقس، وإمكانية المرض أو الجوع والعطش أو نفوق الحصان لأسباب معينة، علما أنه مطلوب منه أن يعود بجواب سريع عن مضمون الرسائل التي كانت في بعض الأحيان تحتوي على معلومات خطيرة على أمن الدولة، ومخططات غاية في الأهمية.

الفارس/ الْفَرَّادِي سابقا كان أيضا يقوم بمهمة حربية، على اعتبار أنه يتميز بشجاعته وإقدامه أثناء الحروب، كيف لا وهو الذي كان يسير في مقدمة الفرسان والجنود، بحكم أنه هو المسؤول عن حمل الراية الحربية، التي يدافع عنها بدمه وروحه حتى لا تسقط في ميدان الوغى.