الخميس 3 أكتوبر 2024
كتاب الرأي

صفية العلوي المحمدي: ماذا لو كان "توماس مور" بيننا؟

صفية العلوي المحمدي: ماذا لو كان "توماس مور" بيننا؟ صفية العلوي المحمدي

منذ سنة 2008، توالت الخطابات الملكية السامية التي كشفت عن عزم الدولة الصريح الانخراط في تدشين الورش الشامل لإصلاح منظومة العدالة ببلادنا، مولية كبير الاهتمام للمكانة التي يحتلها هذا الورش كمدخل أساسي لتعزيز ركائز الديموقراطية وتمتين بنيان دولة الحق والقانون، ومؤسسة في عمقها لمفهوم جديد للعدالة قوامه أن يكون القضاء على نحو خاص والعدالة على نحو عام هدفهما الأساسي خدمة المواطن وصيانة حقوقه.

 

سنة 2013، تفتق عن الخطابات السامية وعن الحوار الوطني للإصلاح الذي دعت له، ميثاق لإصلاح منظومة العدالة، شكل استعراضا مفصلا لمختلف المحطات الأساسية التي يتطلبها ورش الإصلاح ولمجموع المناحي التي سيطالها، وكاشفا بذلك عن خارطة طريق ذات رؤية نسقية متكاملة، تنطلق مما هو مؤسساتي وتمر بما هو اقتصادي ومقاولاتي وتنتهي بما هو إجرائي وحقوقي.

 

بين تاريخ صدور هذا الميثاق واللحظة التي نعيش، جرت مياه كثيرة تحت جسر قطاع العدالة ببلادنا، وذلك مع توالي تنزيل آليات تنفيذ الأهداف المسطرة لكل مرحلة من مراحل الإصلاح المنشود.

 

فقد بدأ ورش الإصلاح، كما ذكرنا، مؤسساتيا، عبر إصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وبالنظام الأساسي للقضاة، ثم هيكليا، عبر تحديث بنية التنظيم القضائي المغربي، ثم جاء البعد الاقتصادي للإصلاح متجسدا في تعديل كل من الكتاب الخامس من مدونة التجارة المتعلق بمساطر صعوبات المقاولة، وبعض المقتضيات القانونية الخاصة بشركات المساهمة، وكذا الأحكام المتعلقة بالآليات البديلة لحل المنازعات، المتمثلة في كل من التحكيم والوساطة الاتفاقية، وهي ترسانة قانونية، لم يثر إصدارها في حينه أي إشكال، لكونها جاءت بمقتضيات تستمد أحكامها، في المجمل، من الأهداف التي شرعت لأجل تكريسها، وذلك إلى أن بلغ مسلسل الإصلاح أوجه مع إصدار مشروع تعديل قانون المسطرة المدنية الذي يعد ركيزة أساسية من ركائز العدالة الإجرائية ببلادنا، والذي بقدر أهميته، جاء النقاش الذي استتبع صدوره محتدما، والذي انبرى له أهل الاختصاص، وعلى رأسهم فئة المحامين بحكم موقعهم كفاعلين مباشرين ومطلعين على دقائق ما قد تثيره القواعد المسطرية المحدثة من إشكالات عملية على مستوى الممارسة، مثيرين الانتباه إلى ما تضمنه هذا المشروع من أحكام حاذت عن المبادئ والأهداف التي كان من المفروض أن يهتدي بها أهل الشأن في صياغتها.

 

إذ كيف لقانون يقيد حق المتقاضين في الاستفادة من حق التقاضي على درجتين على أساس قيمي صرف، والحال أن هذا الحق يعد من أهم الحقوق التي تقوم عليها الأنظمة القضائية في المجتمعات الديموقراطية، كيف لهذا القانون بهذا القيد أن يضمن مساواة عموم المتقاضين أمام القانون ويمكنهم من الولوج السهل والمستنير للعدالة ببلادنا؟؛ كيف يمكن اعتبار كون هذا القانون يكرس "إلزامية الأحكام النهائية" بينما هو يفتح المجال أمام النيابة العامة للطعن في الأحكام القضائية ولو كانت مكتسبة لقوة الشيء المقضي به؟؛ كيف لقانون يراد له أن يكون داعما لجودة الأحكام وأن يساهم في استتباب الأمن القضائي ألا يجعل من حق التمثيل والنيابة أمام القضاء حكرا على المحامي، والحال أنه هو الأكثر تمرسا على استعمال سلاح القانون من أجل الذود على الحقوق وإعانة القضاء على استجلاء الحقيقة؟

 

كل هذه المعطيات من جملة أخرى، تضفي الشرعية على موقف المحامين الداعي لتعديل بعض مقتضيات مشروع القانون المذكور، وتجعل من نضالهم أبعد ما يكون عن النضال الفئوي الضيق، بل وأقرب إلى التعبير عن لسان حال عموم المواطنين باعتبارهم المعنيين على حد سواء بأحكامه، ومن ثم فليس هناك أمامهم سوى الثبات على الكلمة الحق، ما دام أنهم اتخذوا قضية لهم الدفاع عن المبادئ التي كان ينبغي أن تشكل بوصلة للإصلاح، والتي كان ينبغي أن يحتكم إليها كل نص من النصوص القانونية التي تصدر في ظله.

 

فسواء كتب لصوتهم المساهمة في تغيير هذه المقتضيات القانونية بما يتماشى مع الأهداف الكبرى التي ينبغي أن تحققها، والتي ركزت عليه كل الخطب السامية التي شكلت حجر الأساس لهذا الإصلاح، أم لم يكتب له ذلك، فإن هذا الموقف سيبقى علامة شرف للتاريخ، كما بقي موقف المحامي والمفكر الإنجليزي "توماس مور" يذكر على مر العصور، حينما رفض كل محاولات تثبيطه عن اتخاذ موقف للذود عن المبادئ التي كان يؤمن بها، مصرحا بأنه: "إذا كنا نعيش في مجتمع تُثاب فيها الفضيلة، لرفعنا الحس السليم إلى مصاف القديسين، ولكن بما أننا نرى الجشع والغضب والكبر والغباء، فربما ينبغي لنا أن نصمد قليلا، حتى ولو جازفنا بأن نكون أبطالا".

صفية العلوي المحمدي، محامية وباحثة بسلك الدكتوراه