الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

حميد لغشاوي: العَرَنْدَسُ والجِيَفُ الافْتِراضية

حميد لغشاوي: العَرَنْدَسُ والجِيَفُ الافْتِراضية حميد لغشاوي
ما يجري اليوم في وسائط التواصل الاجتماعية لا يمكن النظر إليه باعتباره تفاهة وحسب، بل يمكن اعتباره أمراً مقضياً أقره التاريخ بجدليته الصارمة، ونزعته القاطعة وقوانينه الجامحة. إنّها مرحلة من التاريخ الجديدة، تسمى في النظريات الفكرية ب"الحضارة الرقمية"، تبدو مهلهلة في بدايتها، إلا أنه لا ينبغي أن ننتظر منها ما ليس فيها حين لانجد شيئا نجنيه. "كان يسوع يعْلم أن تلامذته سيرتدون جميعاً عن إيمانهم ويتخلون عنه ويهربون، ولكنه يقول بقلب مطمئن: "ولكن هذا يجري إتماما للكتاب".

ولعل من أهم الترابطات التي تتسم بطابع إشكالي داخل الحضارة الرقمية، بصفة عامة،  هي "الهوية". فيما مضى كانت تبنى على قيم صلبة وموروثة، أما اليوم فقد صارت هشة وهجينة، وأصبح هاجسها: الحرية والأمان، وكلاهما لايسيران في خطين متوازيين؛ فالزيادة في الحرية يقابلها نقصان في الأمان، والعكس صحيح. وقد فضل الإنسان (المغربي) قبل الافتراضي الأمان عن الحرية؛ لأنه كان يخاف من السلطة التي كانت تتأسس على القسر والإجبار على التنفيذ. يقول المثل الشفهي السائر: "قَدّم المْيمْ تَرْتَاح". أما اليوم فقد سلبت الآلة الافتراضية السلطة، وجعلتها متاحة للجميع.

يمكن القول إن الانتقال، اليوم، يبني وعياً جديداً يتخذ من السجون الافتراضية ملجأ للأمان، ولذلك فالمواقع الافتراضية ليست سوى سجون آمنة من الخوف. والفرد فيها لا يتأسس على المسؤولية والعقل، بل على الأنانية الغريزية والشعور بالخوف، (والخائف تكون قواه النفسية مرتدة عن طبيعتها). ولذلك نجد هذه الوسائط الافتراضية، بين الفينة والأخرى، تعيش هيجاناً من المشاعر، وتكون الردود إما الحنين إلى قيم الجماعة للشعور بالأمان (زلزال الحوز، الطفل ريان)، أو تُعَيّر هيجانها بمفهوم جديد/ قديم (أمهات لاعبي المنتخب المغربي بكأس العالم بقطر).  يقول "برنار ماندوفيل" في كتابه "حكاية النحل"، ضمن عنوان فرعي: "الرذائل الخاصة التي تنشئ الفضائل العامة": "هكذا، أعضاء المجتمع، بالرغم من اتباعهم طرقاً متناقضة على نحو مطلق، يتآزَرون رغم أنْفهم".

إن هذه الارتدادات ماهي إلا صورة من صور التفكك الهدام والعنيف الذي تعرضت له الجماعة؛ حيث تحولت قيمها اللذيذة إلى طُعم داخل معركة افتراضية كل الأسياف فيها مشهّرة، وربما يتحول هذا الطعم إلى رعاف. ولذلك، لا يوجد في المجتمع الافتراضي من يضحي بحياته في سبيل فكرة أو قضية أو قيم نبيلة، التضحية وعي أسطوري حمل همَّه أبطال الحكايات والأساطير والأنبياء، أما نجوم شاشة "سمارتفون" فإنهم لايريدون قضية، بل ذبيحة ينهشونها. إن التكنولوجيا فصل من فصول التاريخ الإنساني، وسيكون الصراع فيها بين الخير والشر أيضا، يجب أن نؤمن بهذه القضية، حتى وإن بدأت فصلَها الأول بالمرتدين والغوغائيين، وغضبهم المعدي لا يسلم منه إلاّ من أتاه الله قلباً سليما.  يقول الجاحظ:" اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى انقضاء مدّتها امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسّار، والضَّعَة بالرفعة، والكثرة بالقلة".

وتشكل التفاهة ذلك السيف الذي ينخر قيم الجماعة، ويمزقها من الداخل (بدءا بالأسرة، والمدرسة، والدولة والمجتمع)، ويقول المثل السائر: "من عاش بالسيف مات به"، وسيف التفاهة الافتراضية تقوده اللذة الآنية والمضغ السريع ولا يتقيد بالالتزام والاختيار ولا التحيز. أما سيف التفاهة الإيديولوجية، على وجه التخصيص، فهي تضفي رونقاً في المجتمع الافتراضي، وتتزين بانتماء محلي، وتعيّر  نجومها بعيّنات كبرى (ماكرونصية)، ولذلك نجد بعض نجوم الإيديولوجيات الطائفية والعرقية الجامدة تنشط بشكل واضح، بداع الحرية والتاريخ، وصراعها لا يحقق انتصاراً بل ربحاً مادياً وشهرةً افتراضية، وراكبها كراكب الدراجة لا يمكن أن يوقف الدواسة الافتراضية إذا أراد أن يحافظ على توازنه فوق أسلاك الشبكة الافتراضية.

العرندس الافتراضي
يتميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى بما يرثه من "رموز ثقافية"؛ تلك الرموز التي تبني قيماً ومعايير حضارية تمكنه من التعامل مع العلم والمعرفة، وتؤسس لديه مستوى فكرياً يجمع بين التجربة والتطبيق، ونجدها بالأساس في الحكايات والأساطير والديانات. هذه الرموز الثقافية تعرضت اليوم إلى الإفلاس في سوق الذكاء الاصطناعي، ومالت إلى النذالة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.

وإذا أردنا التحقق من هذه الدعوى يمكن تحليل لغة الفرد الشبكي وسلوكه، أو بالأحرى تلك "العينات الميكرونصية"، التي تنتشر كالنار في الهشيم الافتراضي: (التدوينات، التعليقات، فيديوهات، بودكاست، رقصات...إلخ). إن هذه العيِّنات التي تحقق البوز والترند، تجعلنا نفترض أن الكينونة البشرية، اليوم، تنبني على ميتافيزيقا افتراضية فارغة وضعيفة ومختصرة؛ فالطابع الفلسفي فيها معدوم على شطوط المعرفة والحكمة، ولا تمنح فرصة للنضج الفكري والعلمي، ولا تقدم تشخيصاً لجوهر الطبيعة البشرية. وهذا طبَعِيّ مادامت نجومها تتحدث من فوق السطوح الافتراضية؛ وحيث "عادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء، إلى حال السبع (العرندس) والبهيمة، إلى حال الغباوة والبلادة، إلى حال النجوم في السخرة" (الجاحظ).

ولا أغلو إذا قلت إن "العينات الميكرونصية" التي تحظى بالتعميم والتداول الافتراضيين لابد أن تكون قد سبرت أعماق الأفراد، وتحليلها يساعدنا في فهم السلوك الاجتماعي (المدني) للإنسان المعاصر، وشطحاته التكتوكية، ورأسماليته الثقافية. مثل لفظة "العرندس" التي حظيت بانتشار كبير في المجتمع الافتراضي المغربي.  والمتأمل فيها يمكن أن يكتشف بعضاً من أسرارها؛ فالعرندس هو اسم للأسد ويرمز في المتخيل الإنساني إلى النبل والسيادة والشجاعة؛ فقد لقب حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله (ص) بأسد الإسلام، وأبو الهول رأسه بشري وجسده أسد وحملت الكثير من الآلهة صفات الأسد وأسماءه. إنّه رمز ثقافي، ويتميز عن غيره من الحيوانات بالقوة، وأكل الجيفة، يقول المتنبي:"الجوعُ يُرضي الأسودَ بالجيَف".

يقول الجاحط في كتابه (الحيوان): "والأسد سيّد السّباع، وهو يأكل الجيفة، ولايعرِض لشرائع الوحش وافتراش البهائم، ولا للسابلة من الناس، ما وَجَدَ في فريسته فَضْلة. ويبدأ بعدَ شرب الدّم فيبقُر بطنَه ويأكل ما فيه من الغثيثة والثقل، والحَشْوة والزِّبل، وهو يرجع في قيئه، وعنه ورِث السّنَّور ذلك". إن الجيفة "أحب إلى أشراف السباع ورؤسائها من اللحم العبيط والغريض الغض". ربما فهمتم، الآن، لماذا يفضل "العرندسيون" الافتراضيون نهش الجيف الاجتماعية وترويج المنغصات الاجتماعية الرذيلة.

إن المجتمع الافتراضي يشبه تلك الغابة التي يتوه فيها الفرد الشبكي ويخاطر، فتزرع فيه الرعب والخوف، وهاجس الإنسان اليوم مرتبط بالأمن والأمان، و"شعورنا الشديد بفقدان الأمان لا يصدر عن ندرة الحماية، بل على "عدم وضوح نطاقها" في عالم اجتماعي "يتمركز تنظيمه حول طلب لانهائي للحماية وبحث مسعور عن الأمن" (Robert Castel). مما يعني أن "العرندس"، من منظورنا الافتراضي، يحيل إلى تلك الصفات (أو الرغبات الضرغامية) التي يسعى الفرد في الغابة الافتراضية إلى امتلاكها، وتجعل منه كائنا قوياً "باشقا"، ذا طبيعة مسيطرة في الزمان والمكان الافتراضيين. 

وتكرار  لفظة "العرندس"، سواء عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أو على القنوات الإعلامية وشركات الإشهار، حرك تلك القوة الميتافيزيقية الكامنة في متخيل الفرد الذي تبنيه الآلة الافتراضية، أو ما يصطلح عليه بالقوة "المتعالية trancendental" والتي تحركها المقاصد المضمرة (التلذذ بالجيف، القوة، السيطرة، الصيد في الغابة الافتراضية، البطولة الوهمية..إلخ) أكثر مما تقودها التوسلات المعلنة( مثل: النبل، والشهامة).