لعلم من شغلهم شاغل ما كالتخصص غير الأدبي عن التعمق في معرفة الدرس النقدي، وتطوره ومناهجه وتعدد مقاربات النص الأدبي باختلاف منطلقاتها إلى درجة التباين، والتمييز بين ما يوظف توظيفا معياريا يحكم للنص بالجودة أو يحكم عليه بالرداءة، وما يجعل من النص مجرد معبر نحو نفسية المبدع أو مجتمعه أو ايديولوجيته، وبين مناهج توظف النقد توظيفا وصفيا يتخذ النص كيانا مغلقا تشكله عناصر ومستويات صوتية وصرفية ومعجمية وتركيبية ودلالية تتفاعل في نسج علاقات تمنح النص أبعادا دلالية ولسانية وتداولية وجمالية.
هذا التعدد هو ما يولد الشعور بالتردد قبيل اختيار مقاربة معينة أو الاضطرار أحيانا إلى خلق مزيج مفاهيمي من المقاربات في التعامل مع النص، وخاصة منه النص السردي.
وهو ما اضطررت إليه مادام الهدف من قراءة قصة د.بلقيس بابو(الطلقة الأخيرة) التي فازت بالجائزة الثالثة إثر المشاركة في مسابقة نظمها مركز الدراسات والأبحاث ذرا في فرنسا، في دورته السادسة وسميت جائزة يوسف إدريس.
فقد أفرزت لجنة التحكيم أربعين قصة من بين ألف قصة مشاركة، لتحصد "الطلقة الأخيرة" الجائزة الثالثة. أقول مادام الهدف من تبني مقاربة استكشافية شمولية لنص (الطلقة الأخيرة)، هو الإجابة على السؤال التالي:
-ما الذي أهَّلَ هذه القصة لتحظى بهذه المرتبة، باعتبارها نموذجا من قصص الشاعرة والقاصة المغربية د.بلقيس بابو؟؟.
اختارت الكاتبة لقصتها، وبمهارة واضحة، لحظتي المنطلق والمنتهى، بدءا بلحظة العنونة باعتبارها ممرا طبيعيا نحو النص (الطلقة الأخيرة) ولحظة إنهاء الحدث، باعتبارها اغلاقا للباب الخلفية وإحالة ابداع ما يعقبها للقارئ:
-صوت رصاصة، أسفل الدرج.
وبذلك يبدو العنوان (من منظور سيميائي)، لحظة حاسمة في سيرورة الحدث، فكأنه يستقطب الحدث ويؤطره، وليس مجرد جزء مبتور من فقرة أو جملة،إنه محور النص وحوله تدور حركية الحدث، محور مختزل في كلمتين يحكمهما إسناد صفة (الأخيرة) لموصوف (الطلقة)،وفي عملية الإسناد هاته تكمن أهمية العنوان باعتباره الكلمة المفتاح لفتح باب النص ولإغلاقه، وما بين عمليتي الفتح والاغلاق تمرِّر الساردة رسالة عن البعد التراجيدي لآثار الحرب نفسيا ووجدانيا واجتماعيا وبيئيا.
لم يعد العنوان، إذن، مجرد نص مواز (paratexte) بتعبير جينيت في عتباته.
ولأداء هاته الوظيفة الجوهرية، كان لزاما (من الناحية النحوية) أن يرد العنوان معرفا (بال)؛ أولا لتعيين الطلقة وثانيا لتحديد توقيت الطلقة (الأخيرة)؛ على اعتبار أن تلك الطلقة سبقتها طلقات، ولأنها اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة، بعد أن كابد الجندي بطل القصة (الزوج والأب) المشاق للوصول إلى ببيته وإبعاد زوجته وأبنائه عن مرمى نار عدو لا يرحم.
هذا الجندي هو الشخصية الأكثر حضورا في النص لا نعرفه باسمه وإنما يحيل عليه ضمير الغائب، تليه الزوجة، بينما تمر شخصيات أخرى مرورا عابرا في لحظة من لحظات الحدث (الأبناء/ القائد / الجيران/ القناصة/ العدو/ جثث الأطفال والنساء ..الخ).
ولم تول الساردة الملامح الخارجية لشخصية البطل أهمية تذكر، إذ ظلت بؤرة اهتمامها هي استبطان شخصياتها من الداخل أي عبر أبعادها النفسية والانفعالية والوجدانية:
(يستعطف/ يتوسل/يقاوم الشعور بهول المأساة/ يدعو: رب أرجوك!/ يذرف دموعا ساخنة...). وتستمر في إثارة مشاعر القارئ وهي تتنقل بين ملامح الداخل والخارج للبطلة (الزوجة / الأم /الضحية/ الجثة).
وتشكل العلاقة العاطفية القوية، بين البطل (الزوج) والبطلة (الزوجة) الخيط الخفي الرابط بين حلقات الحبكة القصصية، يكفي لرصد ذلك رسم وضعيات البنية السردية، بدءا من وضعية الانطلاق: -(استعطاف القائد أملا في إنقاذ الزوجة والأبناء). ثم وضعية التحول: -(مكابدة ا والمغامرة في قلب الخطر، خلال التنقل نحو المنزل).
وأخيرا وضعية الختم: -(صمت رهيب يكسره صوت رصاصه).
واضح إذن، أن التيمة المركزية التي تتمحور حولها القصة هي (أثر الحرب)، هذا الأثر الذي يتجاوز مجرد القتل وتدمير العمران والبيئة إلى إحداث جروح عميقة في العلاقات الانسانية والأحوال الاجتماعية والوجدانية للأشخاص.
وهذا ما حدا بالساردة إلى توظيف زمن الليل لحمولته الرمزية، خاصة أنه ليل مظلم (حلول الظلام/ يعم الظلام) إنه ليل بلا قمر وبلا نجوم بل تغيب حتى مصابيح الإضاءة لتحضر بدلها نيران القتل واصطياد الأرواح (يعم الظلام ولاتضاء الأجواء إلا بنيران القذائف).
بالمقابل أخذ، المكان حيزا هاما مقارنة بالزمن، حتى أن الساردة توائم بين الشخصية وبين الديكور الذي يؤثث المكان من حولها بمهارة فائقة، فالبطل وهو يتنقل خائفا يترقب، يعبر أمكنة يعمها الدمار و تراكم الجثث والذباب ورائحة الموت، والزوجة وهي تختبئ بمسكن يتحول إلى فخ يقدمها ضحية سهلة للجناة ومن حواليها الدم، والأبواب المكسرة...
وبذلك يتشابه المكان العام (الطريق و شوارع المدينة والأسطح ..) عن المكان الخاص(المنزل.. الدرج).
و تركيزا من الساردة على أهمية الفضاء نجدها توقف حكي مجريات الحدث لبعض الوقت، وتشرع في الوصف( بدأت تلوح مشارف المدينة، حتى معالمها تشوهت، أين الطرقات؟ أين الجسور؟..)، والملاحظ أن جل المقاطع الوصفية تتم بأساليب إنشائية كالاستفهام والدعاء( على) الذي يفيد معنى التحسر والاستنكار والذم :
أين البنايات الشاهقة؟ أين الأسوار الجميلة والحدائق البابلية المبهرة؟ تبا لقساوة البشر! تبا للحرب والرعب..!
وباختصار هو وصف فني يرسم المشهد بدل أن ينقله نقلا فوتوغرافيا جامدا، وبذلك يشكل المشهد لغة أبلغ من لغة الحوار والحكي.
وقد أكسبت وحدة الزمن في تناغمه مع كآبة الفضاء ثباتا في إيقاع الحدث وتسلسلا كرونولوجيا رتيبا لمختلف حلقاته.
وجل مقاطع الوصف تتداخل مع لقطات حوارية إما من خلال مونولوج داخلي تتفاعل من خلاله مأساة المنظر بكآبة النفس أو حوار ثنائي.
فإذا كان الوصف يهيمن على المقاطع الوسيطة فإن المقطعين الأول والأخير يتضمنان حوارا ثنائيا مشحونا بالانكسار والخوف وحزن يعتصر قلبا يكاد ينفطر من هول المأساة، يبلغ دروته حين يبوح الزوج بانهزام داخلي فظيع وهو يحتضن زوجته باكيا ويقبل جبينها :( آسف حبيبتي! لقد خذلتك، لقد تأخرت كثيرا).
وطبيعي أن توظف الساردة ضمير الغائب الذي يدل على أن الراوي وإن لم يكن شخصية مشاركة، فإنه ملاحظ ومتابع وعليم بأحوال الشخصيات حتى بما يدور في خلدها.
وباستعمال ضمير الغائب حولت الساردة القارئ من مجرد متلق ينفعل بما يعرض عليه إلى قارئ يتفاعل ويشارك ويؤول، بل ورطته بذكاء في إيجاد الجواب للسؤال الضمني المحير في آخر النص (من أطلق الرصاصة؟ وعلى من؟ وكيف؟ ولماذا؟)، وهي بذلك تتفادى تقديم جواب جاهز عن ظاهرة الحرب وآثارها باعتبارها سلوكا إنسانيا لا أمل في التخلص منه مستقبلا.
فإذا كانت سائر القصص لا تخلو مما له علاقة بمنظومة القيم بما فيها قصص الخيال العلمي، فإن الخطاب في (الطلقة الأخيرة) خطاب حامل لرؤية للعالم تؤطرها قيم إنسانية نبيلة (السلم/ الحب/ الوفاء/ سلامة البيئة الاجتماعية والطبيعية...).
وقد صاغت د.بلقيس قصتها بلغة يؤثثها المجاز(يعم الرعب/ تلوح مشارف المدينة/ ألسنة النيران تلتهم..) ومع ذلك يبقى أسلوبها سهلا ممتنعا قريب المأخذ لأن نقل الموصوف أولى من تنميق الصفة.
والخلاصة وبناء على حيصلة المقاربة الشمولية المنجزة فإن قصة (الطلقة الأخيرة) قصة اكتملت شروطها الفنية والدلالية والجمالية، لأنها من منظور نقدي محايد، تتسم بالاتساق والانسجام وجودة البناء، وجمالية الأسلوب وإتقان واضح في نسج صراع درامي شيق وشحن النص بحمولة قيمية إنسانية نبيلة تمكنه من التأثير في المتلقي وجذبه ليتفاعل مع الأجواء النفسية والانفعالية والتأملية السائدة في النص.
وباختصار فالقصة وهي تستجيب للمعايير التي حددتها لجنة التحكيم شكلت، أيضا، دليلا قاطعا على أن ابداع د.بلقيس السردي لايقل جودة وتميزا عن ابداعها الشعري.