الثلاثاء 7 مايو 2024
كتاب الرأي

محمد براو: فائدة المجلس الأعلى للحسابات وشروط تحصين الثقة فيه (2)

محمد براو: فائدة المجلس الأعلى للحسابات وشروط تحصين الثقة فيه (2) محمد براو 
ما الفائدة من المجلس الأعلى للحسابات؟
يستطيع المجلس الأعلى للحسابات أن يحدث فرقا في حياة المواطنين إذا قدم الدليل المقنع والملموس على أنه استطاع، أولا، تعزيز المساءلة والشفافية والنزاهة  في أوساط الحكومة ومؤسسات القطاع العام؛ وثانيا، إظهار الأهمية والجدوى المستمرتين للمواطنين والبرلمان وأصحاب المصلحة الآخرين؛ وثالثا، أن يكون هو نفسه مؤسسة نموذجية من خلال تقديم قدوة حسنة أو مثال رائد يحتذى به.
والحق يقال، لقد بلغ المجلس هنا والآن مستوى مقبولا من النضج، ولا سيما بعد أن خاض مؤخرا مغامرة شيقة تغري بالمتابعة، ألا وهي وضع رؤية واستراتيجية محددة الأهداف، موضحا أنه سيعتمد في تقييمها على الآلية الدولية لقياس أداء الأجهزة العليا للرقابة المالية (ننتظر ونرى) وهو ما سيمكنه هو نفسه فضلا عن المعنيين به وبنجاحه، أن يقيس درجة التأثير الذي يمارسه في الواقع والمظهر في تأمين مهمته الرسالية المتمثلة في تعزيز الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة والنزاهة في إدارة الشأن العام والمال العام... فتحقيق هذا التأثير يمكن أن يبدو أحيانا واضحا ناصعا، عير أنه في كثير من الأحيان يكون ملتبسا أو غير ملموس. ها هنا على المجلس أن يبذل قصارى جهده ليس في العمل والإنجاز ، فأعماله وإنجازاته مشهودة ولا ينكرها إلا أعمى البصر، أو من في قلبه مرض أو غرض، ولكن عليه في نفس الوقت، أن يهتم بالتأثير الذي يحققه من خلال تعزيز قدراته القياسية والتقييمية الذاتية، وكذا كفاءاته التواصلية والتبليغية والإقناعية فيما يخص حقيقة هذا التأثير وطابعه الملموس، وأن يُظهر  ذلك لأصحاب المصلحة الخارجيين الرئيسيين بمن فيهم الإعلام الجاد والمسؤول وغير المغرض، وهذا هو الرهان اليوم، وأنا أجزم أنه ممكن تحقيقه ونحن في منتصف المدة الزمنية لاستراتيجية المجلس الأعلى للحسابات 2022 - 2026. من خلال التقييم المرحلي واستخلاص النتائج الأولية من الآن ونشر نتائجها على العموم. 
ينبغي للمجلس الأعلى للحسابات أن ينظر كذلك في طرق إشراك أصحاب المصلحة لقياس تأثيره وتعزيز فعاليته وبناء صورته العامة، لكن دون المساس بموضوعيته وحياده واستقلاله. إنه لأبعد من الخيال بالنسبة للمجلس الاعلى للحسابات تحقيق الفعالية والتأثير الملموس دون التفاعل والحصول على دعم أصحاب المصلحة. وهم كما يلي مع مراعاة الواقع المغربي: البرلمانيون، المسؤولون الحكوميون، الأحزاب، الإعلام، المجتمع المدني، المواطنون، الأكاديميون والباحثون ومحللو السياسات.. قد يختلف عمق وهدف المصالح على نطاق واسع بين أصحاب المصلحة، ومع ذلك، يجب على المجلس الأعلى للحسابات النظر في كيفية خدمة اهتماماتهم والحصول على تعليقاتهم لتحسين عرض الحقائق والأرقام. لا ينبغي ان نختفي وراء أصابعنا، فهناك حاجة ماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتجسير علاقة تفاهم ودي وتفاعل مهني عميق ومنهجي مع تلك الجهات التي لا تفهم أو لا تقتنع بحسن نية، بما يقوم به المجلس أو لا تكون كفؤة، ولا عادلة أو منصفة في نقده وتقديم الملاحظات بشأن قيمته وفوائده والمسؤولية مشتركة مع المجلس الأعلى للحسابات.
يلاحظ عبر العالم ظهور العديد من "هيئات المراقبة البديلة" التي تحظى في كثير من الأحيان باهتمام عام أكبر من مؤسسات الرقابة. يمكن أن تشمل هيئات الرقابة البديلة هذه وسائل الإعلام والمجتمع المدني ومنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال مكافحة الفساد. وهذا ما لاحظناه حتى في المغرب، جمعيات جريئة تعتبر ما يقوم به المجلس غير كاف أو ضعيف، وراحت تشتغل في البحث عن الملفات المشبوهة وإحالتها على القضاء مستفيدة من ضغط وتعاون الإعلام الجاد. لكن يلاحظ كذلك، أن وسائل الإعلام تميل إلى زيادة الاهتمام بالفضائح وقصص الرعب التي كشفت عنها عمليات الرقابة والتدقيق - والتي لها "قيمة إعلامية" رائعة - بدلاً من مراجعة التأثيرات التي يمكن تحقيقها من خلال عمليات التدقيق والتقييم للموضوعات والملفات التي تستأثر باهتمام المواطنين. أحد الأسئلة التي يجب دراستها من أجل ذلك، هو كيف يمكن للمجلس الأعلى للحسابات استخدام التواصل الاستراتيجي بفعالية لتوجيه مجتمع الإعلام بعيداً عن مجرد قصص رعب نحو التركيز على الأسباب الكامنة والتأثيرات التي يمكن تحقيقها من خلال عمليات الرقابة والتدقيق والتقييم. وبالفعل في بعض البلدان، جربت منظمات المجتمع المدني مراجعة تدقيق تقديم الخدمات والمشتريات، وكذلك نشر ومتابعة نتائج التدقيق والتوصيات من خلال المشاركة المباشرة للمواطنين ووسائل الإعلام.
ما علاقته بمكافحة الفساد؟
من دروس التجربة المقارنة أن الجهاز الأعلى للرقابة تعترضه عراقيل، وأن الهياكل المستقرة والثقافات طويلة الأمد تقيد عمل المراقبين والمدققين ضد الفساد من خلال الاعتماد على نهجهم المتمثل في فحص المسارات. إن الطريقة التي يتوجه بها المدققون إلى الأنظمة والسياسات بدل الأشخاص، وإدراكهم أن الكشف عن الفساد على أنه خارج مسؤوليتهم المباشرة، وافتقارهم أحيانا إلى الكفاءة أو الاهتمام بهذا الموضوع، كلها عوامل تقيد المجهود الوطني الفعال ضد الفساد. لنضرب مثلا بالجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة الدانماركي مثلا، لأن الدانمارك هي جنة النزاهة والتنمية البشرية، يحدد المراقبون بوضوح أن اكتشاف النشاط الفاسد هو خارج مسؤوليتهم. يشرحون هذا بالتحصن الثقافي أو عدم الكفاءة، لكنهم يقدمون أيضًا أسبابًا عقلانية. يشرحون كيف تقلل شفافية الإدارة العامة الدنماركية من مخاطر الفساد وهدا ما تؤكده الملاحظة المباشرة لكاتب هده السطور (في عين المكان)، وبالتالي تجعل اكتشاف الفساد أقل ضرورة للجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة. وفي السويد، بالنسبة لمحاربة الفساد، تجاهل الجهاز الأعلى للرقابة المالية السويد المعيار الدولي 1240، حيث يلتزم المدقق بالتبليغ عن اشتباه في وجود فساد للشرطة، وسلطات الادعاء دون إجراء أي تحقيق. يتجاهل الجهاز الأعلى للرقابة المالية السويدي هذا المعيار بناءً على الملاحظات الواردة من الزيارات إلى الأجهزة العليا للرقابة المالية الأخرى حول العالم، حيث يعتقد الجهاز الأعلى للرقابة السويدي أن السلطات العمومية تغمرها التقارير، مما يجعلها غير عمياء للنتائج التي تم الإبلاغ عنها. كما استبعد الجهاز الأعلى للرقابة السويدي نموذج التحقيق في هذه الملفات لأنهم يعتقدون أنه يتنافس كثيرًا مع وكالات مكافحة الفساد الأخرى مثل الشرطة أو الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الفساد. بدلاً من ذلك، اختار الجهاز الأعلى للرقابة السويدي نموذجًا ثالثًا -فيما بين -يسمح به المعيار 1240، حيث يحقق المدقق في شكوك الجريمة، ليس كما تفعل الشرطة، ولكن مع مراعاة ما إذا كانت هذه هي القضية ستكون الشرطة والنيابة العامة مهتمة بها.  عموما توضح الدراسة المقارنة أن الأجهزة العليا للرقابة قد تعرضت لضغوط مختلفة لمحاربة الفساد. بالإضافة إلى ذلك، أثرت السياقات المختلفة على كيفية تعاملها مع الضغوط وعلى طريقة عملها لمحاربة النشاط الفاسد...
أما في المغرب ففي ظل جمود أو تجميد هيئة النزاهة سطع نجم المجلس فارسا مغوارا في مطاردة ساحرات الفساد، أصبح مطلوبا منه ما يفوق طاقته أو يتجاوز صلاحياته. مع أن هناك جهاز مختصا الآن أصبح كامل الصلاحية في تنسيق وقيادة جهود التحقق من فعالية الساسات العمومية في مكافحة الفساد... إن المجلس الأعلى للحسابات يساهم في محاربة الفساد وليس مختصا مباشرة بمكافحته وإلا سيكون هناك استخدام مزدوج للمؤسسات. الأنظار يجب أن تتوجه للهيئة الوطنية للنزاهة ولسائر مكونات النظام الوطني للنزاهة بما فيها جهات إنفاذ القانون والقضاء.. لكن ذلك لا ينفي أن المجلس بما راكمه من أعمال ومنجزات وبما له من صلاحيات قانونية وخبرة فنية يمكنه أن يفعل الكثير ويضاعف تأثيره ويجعله ملموسا للجميع إن التزم شروط تحصين الثقة فيه... 
شروط تحصين الثقة في المجلس الأعلى للحسابات 
هذه الشروط تتمثل في تجنب ثلاث محرمات:
المحرم الأول: أن لا يعطي الانطباع باستخدامه “كلب هجوم”، أي أداة وظيفية في تكتيكات الهجوم الشرس على الخصوم السياسيين.. وبدلا من ذلك أن تتهيأ له الظروف والإمكانيات ليلعب دوره الدستوري كاملا غير منقوص، كما جاء في خطاب التكليف الملكي للرئيس الأول الجديد للمجلس الأعلى للحسابات الأستاذة زينب العدوي، أي أن يمارس قولا وفعلا المهمة الرسالية المتمثلة في تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة (=الرشيدة) والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية. على اعتبار أن الديمقراطية في وقتنا الحاضر تقترن بالشفافية والمساءلة وحكم القانون باعتبارها أدوات تضمن القطع مع ثقافة التسلط والاحتكار والارتجال والعشوائية والإفلات من العقاب المؤدية إلى تفشي سرطان الفساد. ولكي ينهض المجلس الأعلى للحسابات  بهذه المهمة الرسالية الخطيرة والنبيلة فلا مناص من تدعيم قدراته من جهة وإخضاعه هو نفسه لمعايير الشفافية والمساءلة وحكم القانون، وذلك من باب أولى وأحرى من جهة أخرى. فضلا عن توفير بيئة مؤسساتية وثقافية وإعلامية تلاقيه في أداء مهمته ولا تعرقل جهوده أو تتفنن في الهجوم عليه وتبخيس منجزاته، وفي نفس الوقت لا تسكت على جموده. أو كسله أو انحراف مقاصده.  وذلك كي يتمكن من أن يلعب دور مؤسسة حكامة ذات لبوس قضائي موقرة ومحترمة من الجميع ولفائدة الجميع، ليس لذاتها أو لموقعها المعياري في الهرمية القانونية المؤسساتية في مغرب اليوم، فقط بل أيضا وأيضا، لفعاليتها الملموسة في النهوض بأعباء رسالتها السامية والخطيرة، مؤسسة تحوز على إجماع اللاعبين من حيث وظيفتها الرقابية على المال العام حيثما وأينما وجد درهم واحد منه. ومن حيث مخرجاتها التقريرية والتنبيهية والاستشارية بدون تمييز بينها، بما في ذلك الاعتراض المتوافق على مصداقيته بخصوص السياسات والبرامج العمومية، ومع أن بعض الفقهاء الدستوريين والمعلقين المغاربة على دستور 2011 ذهبوا بعيدا وتحدثوا عن سلطة مضادة.. إلا أنني ومن موقع العارف المتخصص، لا أوافقهم الرأي. فهذا التوصيف مبالغ فيه في نطاق وحدود “توازن السلط والمراقبة المتبادلة” في السياق المغربي… 
المحرم الثاني: أن لا يعطي الانطباع بأنه  “نمر من ورق“، أي أنه يكتفي بالحضور الرمزي والمعنوي والطقوس الشكلية والبهرجة.. بينما في الواقع والجوهر تجده يلوذ بالتفرج في أسوء الأحوال أو التسجيل والتوثيق، في أحسنها، يشتغل بمنطق التأجيل والتسويف وانتظار الأضواء الصفراء والخضراء وفق ما جاء بالتعبير الواضح الصريح في التقرير العام حول النموذج التنموي الجديد…   
المحرم الثالث: أن لا يعطي الانطباع وكأنه  “معمل لطبع للأوراق”: يعمل وينتج ويقدم تقارير وجداول وأرقام ورسومات بيانية بأرفع تقنيات الاستعراض المكتوب والمسموع والمرئي. أي في كلمة يعطي الانطباع وكأنه يشتغل “سكر زيادة”؛ غير أنه في الواقع العملي لا أثر له ولا مفعول  أو هكذا يبدو، سوى مفعول استنزاف الموارد المادية والمالية والبشرية والزمنية. وقد ندد بهذا التوجه المكلف وغير المسؤول، الخطاب الملكي الشهير لمناسبة عيد العرش 2014 (خطاب أين الثروة ؟) الذي رفع البطاقة الحمراء ضد تقارير الاستعراض والاستهلاك… والتوظيف المناسباتي أو الموضعي... 
وأخيرا في خلاصة فإنني عندما أتحدث عن هذه المحرمات الثلاث، فأنا هنا لا أؤكد ولا أنفي ما يقع في الواقع في غياب تقييم احترافي مستقل وموضوعي، ولكن الأهم بالنسبة لي وللجمهور الواسع، هو أن لا يعطي الانطباع، نعم مجرد إعطاء الانطباع يدلك وهنا تكمن الفجوة التي ينبغي تقليصها في انتظار سدها. لأن المعايير المهنية والاخلاقية للأجهزة العليا للرقابة وضعت لتحترم ليس فقط من حيث الحقيقة والواقع على افتراض تحققه بل وكذلك وعلى حد سواء وربما بصورة أهم من حيث الظاهر والانطباع. وللحديث ذيل طويل.. 

  
د. محمد براو             
خبير دولي في الحكامة ومكافحة الفساد
مدير مجلة التدبير والرقابة على المال العام