في مقال سابق قلت دون تردد أن منطقة شمال غرب أفريقيا مرشحة لان تتحول إلى بؤرة توتر جديدة في الصراع الدولي الحالي لاعتبارات كثيرة :
1- الموقع الجيوستراتيجي الذي تحتله المنطقة بموقعها المطل على البحر المتوسط ،ومضيق جبل طارق الذي يعد ممرا مهما في التجارة البحرية الدولية التي تقارب 20 % من حجم التجارة العالمية ،إضافة لقرب المنطقة من الحدود الاوروبية الجنوبية وهو ما يضفي عليها حساسية امنية كبيرة ويجعلها بؤرة مرشحة للتصعيد في حال ما إذا اتسع حجم الصراع الدولي الحالي .دون إغفال القول بأن المنطقة تشكل بوابة أساسية لولوج العمق الأفريقي بأقل تكلفة ممكنة خاصة إذا ما استحضرنا ما تختزنه هذه القارة من موارد طاقية هائلة ضرورية للتقدم الصناعي. ومعادن نبيلة تشكل أساس تطور التكنولوجيات الحديثة.
كل هذا يفسر الاهتمام الكبير والتنافس الحاد للقوى العظمى على القارة الإفريقية الذي يعكسه تزايد الاستثمارات الخارجية فوق أراضيها وتعاظم التجارة الخارجية لدولها التي بلغت مجتمعة حوالي 280 مليار دولار مع الصين .و 225 مليار دولار مع دول الاتحاد الأوروبي . وحوالي 80 مليار دولار مع الهند. و 50 مليار مع أمريكا .و 18 مليار مع روسيا الخ…
2-باستثناء بعض الحالات الخاصة كانت جل دول إفريقيا بعد الحصول على استقلالها مجرد كيانات تابعة في معظمها لمستعمريها السابقين، أو لأمريكا لاحقا بعد ان تلاشى دور بعض الدول الأوربية الاستعمارية .كما أنها ابتلت بحكام مستبدين وفاسدين وصلوا الى السلطة بمساعدة نفس القوى الاستعمارية مما ادخل أفريقيا في مرحلة طويلا من حالة عدم الاستقرار، و الاغتيالات السياسية من طرف المخابرات الغربية وعملائهم في المنطقة، وذلك في حق القادة الذين عبروا عن إرادتهم في الاستقلال والتحرر من التبعية الاستعمارية امثال باتريس لومومبا وتوماس سانكارا و غيرهم .
رغم إن هذا التدخل السافر للغرب الأطلسي في أفريقيا وما ارتكبه من ماسي في حق الشعوب الأفريقية وقياداته الحرة المعارضة، كان يتم تبريره بالصراع الإيديولوجي الذي ساد مرحلة الحرب الباردة بين المنظومتين الرأسمالية والاشتراكية. إلا أنه كان يخفي في الحقيقة رغبة القوى الاستعمارية في الاستمرار في استنزاف الموارد الطبيعية التي تتوفر عليها القارة الإفريقية ،وذلك بالتواطىء مع الحكام الفارقة الفاسدين الذين اشتركوا معهم في وأد المعارضات السياسية، واغتيال قادتها .وما يعزز هذا الطرح هو استمرار حالة عدم الاستقرار هاته حتى بعد نهاية الحرب الباردة وذلك من خلال تفريخ حركات ارهابية، وميليشيات انفصالية في الكثير من المناطق والدول الافريقية من اجل الابقاء على حالة من الانفلات الأمني الذي يستوجب الحضور الدائم للقوى الاستعمارية .
لكن التطورات التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين.
وما اتسمت به من صراع استراتيجي بين قوى غربية تجر ارثا استعماريا ثقيلا موشوما بالانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، وحرمان الشعوب الأفريقية من حقها في الاستقلال والحرية والتقدم. وقوى عالمية صاعدة تسعى لإقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وعادل، يحترم سيادة الدول واستقلالية قراراتها السياسية والاقتصادية وموروثها الثقافي والحضاري مما نقل الصراع من مستواه الأيديولوجي في مرحلة الحرب الباردة ،الى مرحلة الصراع الحضاري كما عرفه صامويل هنتنغتون في كتابه " صدام الحضارات "، وذلك في سياق رده على فوكوياما "نهاية التاريخ ، نهاية إنسان " الذي كتبه في أواسط التسعينيات من القرن الماضي . رغم ان ما ورد عند صامويل هنتغتون لم يكن كافيا لفهم طبيعة هذا الصراع الذي اختزله في مناطق معزولة مقاومة لهيمنة النظام الرأسمالي الليبرالي، وذلك على أسس دينية وثقافية وحضارية، دون أن يستشعر امكانية تبوؤ دول كبرى لصدارة هذا الصراع. وهو ما تنبه له مير شايمر في كتابه "مأساة الدول العظمى" بعد ان تلمس هزيمة أمريكا في كل من أفغانستان والعراق الخ…وتمثل هذا الصراع الحضاري من طرف قوى عالمية جديدة كالصين وروسيا.
بالتالي بالنسبة له كان من الأفيد لأمريكا تجنب خوض هذه الحروب باعتماد ما يسمى القوة الصلبة hard power القائمة على مفهوم نموذج القوة. واللجوء بدل ذلك الى القوة الناعمة soft power التي تعتمد مبدأ قوة النموذج.
كل هذه التطورات والمستويات التي انتقل إليها الصراع الاستراتيجي الحالي في أبعاده العسكرية والاقتصادية والحضارية. وكذا التراجع الذي يشهده نظام الأحادية القطبية بزعامة أمريكا وحلفائها الغربيين لصالح نظام متعدد الأقطاب، قد فتح المجال لدول الجنوب عامة والأمريكية خاصة للتحرر من الهيمنة الغربية. وخلق فرصا جديدة للقادة الشباب من الأفارقة لاستعادة السيادة، واعادة بناء اقتصاديات بلدانهم في إطار شراكات استراتيجية مع القوى العالمية الصاعدة على قاعدة المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. وذلك في تحد علني لنظام العقوبات الذي فرضه الغرب على كل من روسيا والصين. بل إن هذا التوجه الجديد في القارة بدا أكثر وضوحا في منطقة شمال غرب أفريقيا .
مما جعل المنطقة تتصدر الأحداث الدولية في الأربع سنوات الاخيرة. واقصد هنا دول الساحل الإفريقي التي أعلنت عن فك ارتباطاتها بالقوى الاستعمارية السابقة من الناحية الأمنية والعسكرية والاقتصادية. كما انها اعلنت انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ومن المعاملات المالية بالفرنك الأفريقي. مع إعلان نيتها في سك عملة موحدة سيادية لتحالف دول الساحل.
في مقابل توطيد علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع كل من الصين وروسيا مع العمل على إعادة النظر في اتفاقياتها التجارية السابقة مع بعض الدول الغربية، اضافة الى كون التوجهات السياسية والاقتصادية والأمنية لدول هذه المجموعة أصبحت تشكل مجال جذب لدول أخرى مجاورة التي تستعد للسير في نفس الاتجاه مثل تشاد والسنغال والكاميرون التي تعد شريكة لروسيا في نقل النفط الروسي ضدا على العقوبات الأمريكية والغربية، وأفريقيا الوسطى الخ. التي تستعد لاحتضان أكبر قاعدة عسكرية روسية.
إنها بدون شك تحولات تسير عكس المصالح الامريكية والغربية في المنطقة التي شكلت على مدى عقود مجال نفوذ وسيطرة لأمريكا وللقوى الاستعمارية الأوربية خاصة فرنسا.
بالتالي فمن المؤكد أن هذه التحولات الجذرية التي تشهدها المنطقة التي بقدر ما تشكل انعتاقا من السيطرة الاستعمارية الغربية بقدر ما تدفع بالمنطقة الى واجهة الصراع الدولي الذي تكثفه الكثير من مناطق النزاع الجيو استراتيجية في العالم. إلا أنها كذلك، بتطابق وجهات نظر دولها في الكثير من القضايا الداخلية والخارجية تشكل صمام أمان لشعوب المنطقة من اي اختراق خارجي يسعى الى زرع بذور الفتنة وخلق حالة من عدم الاستقرار.
لكن إذا كانت دول الساحل الافريقي ودول أخرى في منطقة غرب ووسط افريقيا قد حسمت خياراتها الاستراتيجية بالتحول شرقا. فما هو حال بعض دول الشمال الغربي لإفريقيا وأعني تلك المطلة على البحر الأبيض المتوسط المغرب والجزائر؟ استحضر الدولتين نظرا لما تشكلاته من امتداد استراتيجي يربط العمق الافريقي بأوروبا من جهة.
ويمكن هذه الدول مجتمعة من تنمية اقتصادياتها وتصدير منتجاتها للعالم بأقل تكلفة ممكنة.
لكن ان كانت دول الساحل الإفريقي ودول افريقية اخرى قد غلبت لغة المصالح الاقتصادية والتجارية و بما يخدم المصالح المشتركة والاستراتيجية لشعوبها وذلك بعيدا عن مخلفات الحرب الباردة. فإن حال المغرب والجزائر يبدو قاتما لسببين رئيسين:
الأول أن الدولتين لا زالتا تعيشان على مخلفات حرب الرمال سنة 1963 عندما اصطفت فرنسا وأمريكا مع المغرب، والدول الاشتراكية مع الجزائر لخوض حرب بالوكالة ظاهرها ترسيم الحدود وباطنها صراع إيديولوجي بين نظام اشتراكي، واخر ملكي كما وصفه الملك الراحل الحسن الثاني في خطابه لنفس السنة، وذلك في سياق رده على رفض الجزائر لعملية ترسيم الحدود ا التي كان قد اتفق في شأنها مع رئيس الحكومة الجزائرية السابق فرحات عباس.
فإن علاقة الدولتين لا زالتا تحت تأثير مخلفات الحرب الباردة التي انتهت مع انهيار جدار برلين مع كل ما أنتجته من أدوات لتأجيج الصراع بين الكتلتين. حتى وإن أخذت هذه الأدوات في بعض الحالات شكل حركات تحرر كما هو الشأن لجبهة البوليساريو، التي تأسست بواسطة يساريين صحراويين مغاربة تلقوا تعليمهم في الجامعات المغربية في بداية السبعينات من القرن الماضي، وبدعم من باقي اليساريين المغاربة الذين كانوا يرون في الجبهة فلعة خلفية لقلب النظام السياسي في المغرب قبل أن تحتضنهم ليبيا ومن بعدها الجزائر.
ثانيا كون الدولتين تعيشان من الناحية الرسمية تيها هوايتيا الى درجة الانفصام فتارة تعلن انتماء عروبيا. وتارة اخرى انتماء افريقيا أو حتى اوربيا. علما ان غالبية شعوبها افريقية امازيغية الثقافة والهوى. حتى وإن كان أغلب السكان ناطقون بالعربية نتيجة لسياسات التعريب والفرنسة الذي نهجته الدولتين سواء قبل استقلالهما عن طريق السلطات الاستعمارية والزوايا والمدارس القرآنية، او حتى المدارس الخاصة المحسوبة على عناصر وطنية في كلا البلدين. او بعد مرحلة الاستقلال من خلال تعميم التعليم بالعربية في المدارس العمومية على حساب اللغة الأصلية.
ان التيه الهوياتي لهاتين الدولتين هو نقطة ضعف في عملية إعادة البناء. وهو ما يشكل في المقابل نقطة قوة لدى باقي الدول الافريقية التي تعتز بهوياتها المحلية الافريقية. هذا بالإضافة الى وعيها العميق بالتحولات الدولية وما تتسم به من صراعات استراتيجية تحركها المصالح الاقتصادية والسياسية والحضارية. بدل المصالح الأيديولوجية كما كان عليه الحال في مرحلة الحرب الباردة.
كما أنه إذا كان تحالف دول الساحل المرشح للتوسع ليشمل كل من تشاد و السنغال أفريقيا الوسطى قد وعى مصلحة شعوبه وحسم خياراته الاستراتيجية في اتجاه القوى العالمية الصاعدة شرقا، مع الابقاء على علاقات مفتوحة مع القوى الغربية شريطة مراجعة الاتفاقيات التجارية والاقتصادية السابقة التي كانت مجحفة في حقهم .فهل يمكن القول إن المغرب والجزائر قد أدركا المخاطر التي تهددهم وتهدد المنطقة بأسرها بسبب التوتر المتصاعد الذي تشهده العلاقات بين البلدين خاصة في ظل تنامي الصراع الدولي الحالي ؟.و هل أدرك البلدين كباقي نظرائهم في المنطقة الجنوبية لحدودهم اهمية التحولات الدولية و ما تبشر به من تغير عميق في خارطة موازين القوى الدولية، بالتالي البحث عن التموقع الصحيح للمساهمة في صياغة النظام العالمي الجديد؟.
علما أن الجزائر رغم كونها كانت تاريخيا محسوبة على الشرق زمن الاتحاد السوفييتي ،ولا زالت تربطها حاليا علاقات وطيدة مع كل من روسيا والصين المختلفتين على ما كانتا عليه زمن الحرب الباردة بعد ان تحولتا الى اقتصاد السوق إلا أنها مع الأسف لا زال يسكنها هاجس الزعامة و إرث الماضي في علاقاتها بجارها المغرب وباقي دول أفريقيا ولم تتلمس بعد اهمية هذا الاصطفاف في العلاقات الدولية الذي كان من المفروض ان يشكل دافعا لها في المساهمة مع باقي الشركاء الإقليميين الى بلورة مشروع إقليمي يأخذ بعين الاعتبار المصالح الامنية والاقتصادية والتجارية المشتركة لشعوب المنطقة.
كمتابع للعلاقات المغربية الجزائرية التي يطغى عليها التنافس الزعاماتي الضيق وقصور النظر، أشك في قدرة البلدين في الوضع الحالي السير في نفس اتجاه باقي دول جنوب الصحراء، وقراءة التحولات الدولية بمنطق المصلحة المشتركة مع استعداد الطرفين للجلوس على طاولة الحوار لوضع صيغة متفق عليها للأمن الإقليمي المشترك وحل الأزمات التي تعكر صفو علاقاتهما سواء تلك الموروثة من الحقبة الاستعمارية كمشكل رسم الحدود التي تمتنع الجزائر على مناقشته. أو تلك الناتجة عن مرحلة الحرب الباردة ك 'جبهة البوليساريو" التي لازالت تحتضنها وتدعمها الجزائر.
او تلك المستحدثة والتي رافقت تطور الصراع الدولي بعد ان استغلت القوى الدولية المتصارعة حالة التوتر القائمة بين البلدين كالسباق الى التسلح الذي يشهده كلا البلدين، وارتماء المغرب في احضان الأطلسي من الناحية العسكرية والامنية. واستضافته قيادة أفريكوم الامريكية بعد ان تم طردها من النيجر واحتضان المغرب سنويا للمناورات العسكرية الأطلسية بقيادة أمريكا المسماة اسد الصحراء وتطبيع علاقته بالكيان الاسرائيلي. علما ان حالة التوتر التي تتسم بها العلاقات المغربية الجزائرية ليست بالجديدة على اي مهتم بالعلاقات الدولية. وذلك علاقة بالمشاكل التي ورثها البلدين سواء عن المرحلة الاستعمارية أو الحرب الباردة والتي سبق ذكرها.
لكن بالرغم من كل هذا كانت العلاقات المغربية الجزائرية تشهد من وقت لآخر بعض الانفراجات التي توجت بلقاءات على أعلى المستويات خاصة بعد مرحلة الثمانينيات. وذلك بعد أن انتهى ما كان يسمي بالثنائية القطبية وما تلا ذلك من انفراد أمريكي بزعامة العالم، وتراجع اهمية المنطقة بالنسبة للغرب لصالح مناطق اخرى في العالم.
اما خلال السنين الاخيرة ومع تصاعد وتيرة الصراع الدولي وصعود اقطاب عالمية جديدة منافسة لأمريكا والغرب. عادت المنطقة إلى واجهة الاهتمام الدولي والقوى المتصارعة فيه، لتشهد المنطقة مزيدا من التوترات، انعكست سلبا على العلاقات الجزائرية المغربية وصلت الى حد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ومنع الجزائر لمجالها الجوي أمام الطيران المدني المغربي. وحشد القوى العسكرية على حدود الطرفين واحتضان او تشجيع حركات انفصالية في كلا البلدين... الخ…
بالتالي يمكن القول اذن، اإ كانت دول الساحل ودول اخرى في وسط وغرب افريقيا قد حسمت خياراتها الاستراتيجية ووطدت علاقاتها البينية استعدادا لأي تحولات دولية قد تهدد امنها الاستراتيجي. فان حال المغرب والجزائر يبدو هو الجانب الأضعف في هذه المعادلة. لأن الطرفين مع الأسف لم يدركا بعد المخاطر التي تهددهم وتهدد المنطقة بأسرها. وذلك باستمرار الوضع المتوتر حاليا الذي يوفر كل أسباب التدخل للقوى الخارجية. وفي حالة اندلاع حرب بين البلدين لا قدر الله، فإن التداعيات ستكون كارثية ووبالا على الجميع. لأن حجم التدخلات ستكون كبيرة ولا تقارن مع حجم التدخلات إبان حرب الرمال سنة 1963.