كلمة "طاهر" التي استعملتُها في عنوان هذه المقالة، لا علاقةَ لها بالمعنى المتداول الذي يرتبط بالنظافة. فعندما أقول "الدين طاهر"، المقصود هو أن الدينَ الذي أراده الله، سبحانه وتعالى، لعباده هو دين ليس فيه شيء يُسيء للناس أو للعباد أو للبشر. بمعنى آخر، "الدين الطاهر" كلُّه نفعٌ ومنفعةٌ وخَيْرٌ ورِبْحٌ وفائِدَةٌ وفَضْلٌ وكَسْبٌ ومَصْلَحَة… وبصفة عامة، عندما أقول : "الدين طاهر"، المقصود هو ارتباط هذا الدين بالقيم الإنسانية السامية التي هي أساس الحياة المشتركة داخلَ المجتمعات.
نفس الشيء بالنسبة لكلمة "وَسِخَة". المقصود ليس الوسَخ بالمعنى المتداول، أي ما يسيء لنظافة الأشياء أو يُشوِّه صفاءَ مظهر هذه الأشياء من غُبار وقذارات. ليس هذا هو المقصود. المقصود هو ارتباط السياسة، كما هي مُمارسةٌ اليوم، سواءً على الصعيد المحلي أو العالمي، بقيم اجتماعية دنيئة، خسِّيسة وغير مرغوب فيها، وعلى رأسها، بصفة عامة، النفاق والفساد.
في هذه المقالة، أريد أن أثيرَ الانتباهَ أن كلمةَ "دين" شائعةُ الاستعمال في الأحاديث المتداولة وفيما يُنشر على مختلف وسائل الإعلام المسموعة، المقروءة والمرئية. الدين هو مجموع الممارسات والطقوس للتَّقرُّب من ما يعتبره الناسُ مقدسا.
والدين يُمكن أن يكونَ منزلا من عند الله، فهو دين سماوي، كما هو الشأن بالنسبة لليهودية judaïsme والمسيحية christianisme والإسلام. في هذه الحالة، ما هو مقدَّسٌ، هو الله سبحانه وتعالى. واللهُ، عزَّ وجلَّ، مقدَّس من خلال ما أراده من دينٍ للناس.
كما يمكن أن يكون الدينُ وضعِيا، أي غير منزَّل من عند الله، بمعنى أنه من صنعِ البشر كالكونفوشيوسية عند الصينيين confucianisme والبوذية عند الهنديين bouddhisme. في هذه الحالة، ما هو مقدسٌ هو الشخص الذي وضع الدين.
وكيفما كان الحالُ، الله، سبحانه وتعالى، لا يفرض الدينَ الذي أراده للناس على أيٍّ كان. لكنه يوضِّح في القرآن الكريم أهميةَ هذا الدين ومنافعَه وكل ما يجلب للناس من خير، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة، 256).
في هذه الآية، الرُّشد هو الهداية واتِّباع الصراط المستقيم. بينما الغي هو الضلال، أي الانحراف عن الطريق المستقيم. في هذه الآية، بيَّن الله، سبحانه وتعالى، طريق الإيمان وطريقَ الكفر وترك الاختيارَ للناس ليسلكوا واحدا منهما. وفيما يلي بعض آيات القرآن الكريم التي تبيِّن وتُبرز هذا الاختيارَ :
1.لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون، 6).
2.لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ… (البقرة، 272).
3.وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس، 99).
2.لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ… (البقرة، 272).
3.وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس، 99).
وتَركُ الاختيار للناس ليتديَّنوا بالدين الذي يناسبهم، هو الذي جعل من العالم الحالي مكانا تتساكن فيه الديانات السماوية والديانات الوضعية. إلى يومنا هذا، لا يزال في هذا العالم ناسٌ يعبدون البشرَ والأصنامَ والحيوانات والأشجار… ولا يزال ناسٌ يعطون للمادة روحا وحيويةً animismei.
أما السياسة، بمعناها النبيل والمتعارف عليه كونيا، فيمكن تلخيصها في ممارسة السلطة exercice du pouvoir على مستوى بلد بأكمله أو على مستوى جهة من الجهات أو على مستوى مدينة أو قرية أو على مستوى تجمعات سكانية معينة. ولماذا تُمارسُ السلطة؟
تُمارس السلطة من أجل تدبير الشأن العام. وما هو الشأن العام؟ الشأن العام هو كل ما له علاقة بتسيير وتدبير الحياة بمفهومها الواسع للبلاد، أو بعبارة أخري، تدبير الشؤون العامة لهذه البلاد. والشؤون العامة للبلاد لها أبعادٌ اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، مالية، صناعية، فلاحية، أمنية، عسكرية، تجارية، دبلوماسية، خارجية، داخلية…
وبصفة عامة، السياسة تُدبِّر كل ما له علاقة بحياة المواطنات والمواطنين داخل المجتمع. ومَن يقوم بهذا التدبير؟
عادةً، يقوم بهذا التدبير الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخابات. والدساتير هي التي تحدِّد وتوضِّح كيفيةَ الوصول إلى السلطة. والدساتير هي عبارة عن أسمى قانون في البلاد، ينظِّم العلاقات بين الأحزاب السياسية الحاكمة والمواطنين، بما في ذلك حماية حقوق هؤلاء المواطنين وتحديد ما عليهم من واجبات إزاء الدولة وإزاء المواطنين الآخرين. فعلى الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة أن تحترمَ دستورَ البلاد وتستمدَّ منه سياسة تدبير الشؤون العامة للبلاد.
إذن، مسئولية تدبير شؤون البلاد تقع على عاتق الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخابات. وهذه الأحزاب السياسية إما أن تنجحَ في تدبير شؤون البلاد وإما أن تفشلَ في هذا التدبير. فإن نجحت، فهذا هو ما يفرضه واجب تحمُّل المسئولية وهذا هو، كذلك، ما ينتظره المواطنون. وإن فشلت، فالأحزاب السياسية هي التي تتحمَّل مسئوليةَ هذا الفشل. وفشل الأحزاب السياسية في تدبير الشؤون العامة للبلاد، هو كذلك فشل السياسات العمومية التي تبنَّتها هذه الأحزاب من أجل تجسيد الوعود الانتخابية على أرض الواقع.
حينها، من حق المواطنين أن يطرحوا أسئلةً حول أسباب فشل الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة في أداء مهامها. من بين هذه الأسباب، أذكر الفساد السياسي، أي أن تكونَ الأحزاب السياسية نفسها فاسدةً وتنشر الفسادَ. وهنا، لا بد من إثارة الانتباه أن الفساد السياسي موجود في جميع البلدان بدون استثناء، ماضيا وحاضرا. وقد يزداد هذا الفساد السياسي طُغيانا وظلما حينما يختلط الدين بالسياسة.
وهذا هو ما حدث، بالنسبة للبلدان الإسلامية مباشرةً بعد وفاة الرسول محمد (ص)، أي حينما بدأت ولاية الخلفاء الراشدين. فبقدر ما كان الرسول (ص) منشغلا بنشر رسالة الإسلام، من خلال الوحي، فبقدر ما واصل الخلفاء الراشدون هذا النشر لكن في ظروف اختلط فيها الدين بالسياسة. حينها، بدأ التَّطاحن من أجل الوصول إلى السلطة. بل بدأت المؤامرات والدسائس التي زاد حجمُها واتِّساعُها في عهد الأمويين والعباسيين. بل أصبحت الاغتيالات جزأً لا يتجزَّأ من ممارسة السلطة.
حينها، أصبح الدين الذي، من المفروض أن يكونَ أمرا يدور بين خالق ومخلوق، وسيلةً يتمُّ امتطاءها للوصول إلى السلطة. وهذا هو ما تنهجه الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، إذ الدين، بالنسبة لها، ليس مسألة عبادة تدور أطوارُها بين خالقٍ ومخلوقٍ، بل وسيلة يتم من خلالها تخدير بعض العقول رغبةً في الوصول إلى السلطة. وتخدير العقول له عواقب اجتماعية، اقتصادية وثقافية تمنع هذه العقول من التَّحرُّر والتَّفتُّح فكريا وثقافيا.
كثيرٌ من البلدان أدركت خطورةَ اختلاط الدين بالسياسة، ففَصلت بينهما دون أن تمسَّ حريةَ ممارسة الطقوس الدينية بمختلف أنواعها. في مثل هذه البلدان، تتساكن الديانات السماوية والديانات الوضعية بدون أدنى مشكل. في البلد الواحد، توجد الكنائس والمساجد والمعابد اليهودية ومعابد الديانات الوضعية.
اليوم الذي سيقتنع فيه الحُكَّامُ المسلمون بأن الدينَ هو أمرّ محصور بين خالق ومخلوق، سيخطون خطواتٍ إلى الأمام نحو بناء الديمقراطية الحقة التي ليست اليوم إلا شعار لا وجودَ له إلا في الدساتير. أما الواقع المعاش، فالسياسة الفاسدة حتى النخاع، هي التي تسيِّره وتُديره حسب ما تقتضيه ظروفُ ومصالحُ الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخابات، سواءً عندنا أو عند غيرنا.
لو كانت السياسة تُمارس حسب ما يُرضي اللهَ وحسب ما تقتضيه الضمائر الحية، لما غرق العالم في مشكلات ضخمة ومصيرية مثل تغيير المناخ، انتشار الفقر والظلم والحروب، وطغيان الأقوياء على الضعفاء، الإبادات الجماعية…
أرأيتم لماذا عنونتُ هذه المقالة ب:"الدينُ طاهرٌ والسياسةُ وسِخَةٌ"؟ الدين طاهر بإرادة الله وحسب ما ينصُّ عليه القرآن الكريم، والسياسة وَسِخَةٌ بإرادة البشر.