الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

لحسن العسبي: العابرون في قصص سرير فرنسية عابرة

لحسن العسبي: العابرون في قصص سرير فرنسية عابرة

غطى، بمسافات، كتاب صديقة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الصحفية تراير ويلر، الصادر منذ أسبوعين، على الدخول السياسي والثقافي والأدبي بفرنسا، بشكل جعل من أسرار ساكن قصر الإليزي، المادة الأولى لاهتمام الرأي العام هناك وفي العالم.. خاصة وأن النص مكتوب بلغة صحفية محترفة، فيها دربة الحكاية الصحفية، تلك التي تهبها أجناس الروبورتاج والبورتريه والتحقيق، التي ليس اعتباطا أنها توصف في كل مدراس الصحافة العالمية ب "الأجناس الصحفية" (les genres nobles). بدليل أنه، حين تبدأ قراءة النص، تجعلك لغته ومبناه، لا تتركه من يدك حتى تنهي آخر سطر منه. كي تخرج بخلاصة مركزيو واحدة هي أن الصحفية انتصرت عبر الكتابة على السياسي.

لكن علينا، جديا أن لا نتسرع في الحكم هنا. لأن الأمر أكبر من مجرد امرأة تنتقم من ما اعتبرته خيانة لها. دون إغفال أن حكم "الخيانة" هنا، لا يستقيم قانونيا، كون الرئيس والصحفية ليسا زوجين بالمعنى القانوني، بل مجرد صديقين. وإذا كان هناك من سبق حققاه معا، ضمن هذه الواقعة، التي سيطويها النسيان بسرعة، فهو أن فرانسوا هولاند يعتبر أول رئيس في الجمهورية الفرنسية يحعل من صديقة له، غير متزوج بها، سيدة فرنسا الأولى، ولو لشهور. ليكتب بذلك، سطرا في دفتر مغامرات رؤساء فرنسا النسائية، مختلف عمن سبقوه. لأنه منذ الرئيس فليكس فور، الذي سكن قصر الإليزي بباريس، في نهاية القرن 19، بين سنوات 1895 و1899، الذي توفي عاريا، بين يدي إحدة عشيقاته. بل، وقبله بكثير، منذ عهد الإمبراطور نابليون بونابارت، والقصر الرئاسي الفرنسي يعيش حكايات قصص خاصة بين رؤساء فرنسا والنساء، شكل الاستثناء ضمنهم قلة، لعل أبرزهم على الإطلاق الجنرال شارل دوغول، الذي لم تسجل عليه أبدا، أية مغامرة نسائية قبل وأثناء وبعد فترته الرئاسية.

بينما منذ جورج بومبيدو، حتى فرانسوا هولاند، توزع رؤساء فرنسا، بين ربط علاقات مع عشيقات في سرية تامة، امتدت لعقود، مثل حال الراحل فرانسوا ميتران، الذي لم تكتشف علاقته بأستاذة للتاريخ وإنجابه منها ابنته مازارين، سوى بعد أكثر من 20 عاما. وكذا علاقته السرية مع المغنية الشهيرة داليدا. وبين من كان يفاخر بعلاقاته تلك، مثل فاليري جيسكار ديستان وجاك شيراك. بل إن جيسكار ديستان سيصدر كتابا يصف فيه بالتفصيل بعضا من مغامراته الخاصة تلك. التي اتضح فيما بعد، أن بها الكثير من المبالغة، خاصة ربط علاقة مع الأميرة الراحلة ديانا.

إن الوقائع، المثيرة هذه، تدعونا في الواقع إلى مقاربة أخرى، أعمق من مجرد تتبع حكايات عابرة لرجال ونساء، ميزتهم أنهم مسؤولون عموميون، في دولة قوية لها ثقل حضاري مثل فرنسا. وهي مقاربة ثقافية سلوكية. لأن السر في الوقائع تلك، كامن في الجدر الثقافي الذي تتأسس عليه ثقافة الجسد غربيا وفرنسيا، الذي هو مختلف عن المعنى الليبرالي الأمريكي، ومختلف عن ثقافتنا العربية الإسلامية. لأنه بالعودة إلى دراسات بعض من كبار مفكري فرنسا، من طينة ميرلوبونتي، رولان بارث وميشال فوكو، نقف بمتعة معرفية أكاديمية، عند اهتمام خاص بدراسة علاقة الفرد الفرنسي تاريخيا، بجسده، التي هي علاقة تملك فردي خاص، ينظر إليه على أنه ملكية حرة كاملة للفرد، يحقق من خلاله اللذة في معانيها المادية والروحية والرمزية. وأن الجسد ليس وديعة لديه، كما نجده في المعنى الثقافي، المؤطر دينيا، في ثقافتنا العربية. بل، نجده حتى في الثقافة السلوكية الأمريكية المتأسسة على مثال كنسي محافظ للعائلة.

إنه بالعودة، مثلا، إلى كتاب "شذرات خطاب عاشق" (fragment d’un discours amoureux) لرولان بارث، وإلى كل أطروحات ميشال فوكو حول "نظام المعرفة" وتاريخ الجنس سنكتشف أن المعنى الوجودي لأن تكون امرأة وتكون رجلا، في الثقافة الغربية مختلف عن ذات المعنى في باقي ثقافات العالم. بل حتى الأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني، كله ممجد لذلك المعنى الوجودي للفرد، ذكرا وأنثى. الذي نجد أن المرتكز فيه عند الرجل الفرنسي والغربي، هو أن يكون مرغوبا فيه من الأنثى، وأن ينال رضاها. ما جعل كل وكد الرجل في تلك الثقافة هو أن يكون مطلوبا ومعشوقا. ها هنا، نجد معنى تفسيريا حتى لسيرة كازانوفا، التي هي شكل من أشكال الانتقام من تلك السطوة للأنثى على الرجل في تلك الثقافة السلوكية الغربية. لأنه ترسخ سلوكيا أن الرجل غير المرغوب فيه من الأنثى، يعيش كارثة وجوده كإنسان، يلخصها رولان بارث في جملته العميقة، حين يصف انتظاره لأنثاه التي لم تحضر، قائلا إنه ترك مثل سلعة منسية على رصيف محطة قطار لم يأت أي أحد ليتسلمها.

ولو انتبهنا قليلا، سنجد أن النقيض هو المتحقق في ثقافتنا العربية. وأيضا بأشكال قريبة في الثقافة اليابانية والهندو – صينية، حيث المركزي هو الرجل، وقدر الإناث أن تقتنص رضاه. وحين لا يهتم الرجال بالمرأة، فإنها تبور، ليس كعمر بل كمعنى وجود وكذات. وذلك قمة المأساة ثقافيا وسلوكيا بالنسبة لها. وليس اعتباطا هنا أن يقال "ظل رجل ولا ظل حائط" وأيضا "الله يجيب ليك شي نقرة فين يغبر نحاسك". ها هنا نحن بإزاء معنى ثقافي سلوكي، وها هناك نحن بإزاء معنى ثقافي سلوكي آخر مخالف، كما تراكم تاريخيا. لأن الرؤية للجسد مختلفة من هذه الثقافة إلى تلك. وبهذا المعنى، فإن قصص رؤساء فرنسا مع عشيقاتهم، جزء من ثقافة سلوكية لها سياقاتها التأويلية. ولن يعفينا، هذا، أن نسجل معطى آخر، مثيرا، في قصة الرئيس الفرنسي هولاند والصحفية تراير ويلر، هو أن فرنسا، كبنية حضارية لإنتاج المعارف خلال القرون الثلاثة الأخيرة (18/19/20)، قذ ظلت تصدر على العالم بفطاحلها الكبار في السياسة (مونتيسكيو، نابليون، جون جوريس ودوغول...)، وفي الفكر والفلسفة (ديدرو، ديكارت، روسو، هنري بوانكاري، لاكان، ليفي ستراوس، ميرلوبونتي، فوكو، بارث، سارتر ....)، دون نسيان الأدب والغناء والسينما.. لكنها، منذ ميلاد النظام العالمي الجديد، وميلاد نظام السوق، لم يعد نجومها العموميون، كمواضيع للإهتمام والمتابعة، وهذا عنوان أزمة جدي، لم يعد نجومها، واعذروني على هذه الخلاصة القاسية، سوى "العابرون في قصص سرير عابرة".