الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: هل القرآن الكريم مصدرٌ للإعجازِ العلمي؟

أحمد الحطاب: هل القرآن الكريم مصدرٌ للإعجازِ العلمي؟ أحمد الحطاب
قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، من الضروري الوقوف، بعض الشيء، على عبارة "الإعجاز العلمي" لإدراك ما سأقوله في الفقرات الموالية. الإعجاز العلمي هو أن يكون مُتدبِّر آيات القرآن الكريم على علمٍٍ  بأن اللهَ، سبحانه وتعالى، يشير، في هذا القرآن، إلى بعض الظواهر العلمية التي أثبتها العلم الحديث، من خلال ما قام ويقوم به الباحثون من تجارب داخلَ وخارجَ المختبرات. لكن أين يكمن الإعجاز؟ الإعجاز يكمن في كون الله، سبحانه وتعالى، أشار إلى هذه الظواهر العلمية، في القرآن الكريم، منذ أكثر من 14 قرنا. بينما لم يستطع العلمُ الحديث اكتشافَها أو تفسيرَها إلا خلال القرون الثلاثة الأخيرة. وبالطبع، لم يستطع المسلمون إدراكَها في عهد الرسول بحكم أن الوسائل البحثية والتجريبية لم تكن متوفِّرة في ذلك العهد لا بشريا ولا ماديا.
صحيحٌ أن القرآن الكريم فيه إشارات لبعض الظواهر العلمية phénomènes scientifiques التي توصل العلمُ الحديث إلى اكتشافها أو إلى تفسيرها. وهذه الظواهر، إما أن تكونَ اجتماعية أو فيزيائية أو بيولوجية أو جيولوجية أو كيميائية أو جغرافية أو ديمغرافية…
 
وعندما أقول : القرآن الكريم فيه إشارات، فهذا معناه أن هذا القرآن يُشيرُ أو يُلمِّح للظواهر العلمية. والدليل على ذلك، أن القرآن الكريم ليس فيه تفسير ولو لظاهرة علمية واحدة، كما هو الشأن لِما توصَّل إليه العلمُ الحديث من تفسيرات. لماذا؟
لأن القرآن الكريم هو دعوةٌ من الله، سبحانه وتعالى، لهداية العباد أو الناس أجمعين، كيفما كانت معتقداتُهم وكيفما كانت أجناسُهم. والدليل على ذلك، أن التسميات التي أعطاها الإنسانُ للظواهر العلمية ليست موجودةً في القرآن الكريم. فالإشارات تكون، إما عن طريق كلمات معينة أو  عن طريق آيات معينة. مثلا : 
أولاً، فحينما يتحدَّث، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 45 من سورة النور (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)، عن طريقة مشيِ الدواب، وحينما يقول، في نفس الآية، "يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ"، فهذه إشارة للظاهرة العلمية التي سماها العلمُ الحديث "التَّنوُّع البيولوجي" biodiversité. 
ثانيا، وحينما تحدَّث، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 14 من سورة المؤمنون (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚفَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، عن النطفة والعلقة والمُضغة، فهذه إشارةٌ للظاهرة العلمية التي أطلق عليها العلمُ الحديث "علم الأجِنَّة" embryologie.
ثالثا، الظواهر العلمية التي اكتشفها الإنسانُ أو فسَّرها هي، في الحقيقة، من منظور  إلهي، ثوابت من الثوابت التي يدبِّر بها الله، سبحانه وتعالى، الكونَ والأرضَ. فهي أشياءٌ مطلقة، أي مستقلة عن الزمان والمكان. بينما الظواهر العلمية التي توصَّل العلم الحديث إلى اكتشافها أو تفسيرها، ليست إلا محاولات تفسيرات بشرية لهذه الثوابت. تفسيرات توصَّلَ إليها العلم الحديث انطلاقا من الخلفيات البشرية، الفكرية والمعرفية المرتبطة بالزمان والمكان. ومن الطبيعي أن يُشيرَ القرآن الكريم لهذه الثوابت لأن اللهَ، عز وجل، هو خالق الكون وخالقها. ولا أحد يعرفها معرفةً دقيقةً أكثر منه. ولهذا، ما باستطاعة العلم الحديث أن يفعلَ، هو أن يُحاولَ تفسيرَها كلما أُتيحت له الفرص، فكريا وماديا. 
من بين هذه الثوابت، أذكر، على سبيل المثال،  الجاذبية pesanteur ou gravitation. وهي قوة فيزيائية تمكِّن الناسَ والكائنات الحية الأخرى وجميع الأشياء المادية من المكوث على سطح الأرض. فحينما نقفز، نعود إلى سطح الأرض. وحينما نلقي بحجرة إلى الفوق، فإنها تعود إلى سطح الأرض. فالجاذبية هي التي تحتفظ بجميع المكونات الحية وغير الحية، أو إن صح القول، تُجبِرٌ هذه المكوِّنات من المكوث على سطح الأرض، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمان، 33).
في هذه الآية الكريمة، "أَن تَنفُذُوا" تعني إذا اردتم الخروجَ من أقطار الأرض أو مغادرة هذه الأقطار، أي نواحي الأرض، فلكم ذلك. لكن يلزمكم "سلطان"، أي قوة تقاوم قوةَ الجاذبية، أي قوة تمكِّنكم من مغادرة الأرض في اتجاه السماء، بمعنى الإفلات من قوة الجاذبية، علما أن هذه الآية تشير إلى الجاذبية ولا تفسِّرها. الذي فسَّرَ الجاذبية، كظاهرة علمية فيزيائية، هو العقل البشري، من خلال أبحاث نيوتن Isaac Newton. فأين هو الإعجاز العلمي؟
وإلى جانب الجاذبية، من بين الثوابت التي يدبِّر بها، سبحانه وتعالى، الحياةَ، بمعناها البيولوجي، على سطح الأرض، هو أن هذه الحياة غير ممكنة خارج الطبقة الأولى من الغلاف الجوي الذي يحيط بهذا السطح. وهذه الطبقة هي التي تحتوي على الغازين الأساسيين والضروريين لاستمرار الحياة، أَلا وهما الأكسجين O2 وثاني أكسيد الكربون CO2، علما أن الأكسجين تقِل نسبتُه في الجو أو يصبح نادرا كلما ابتعدنا عن سطح الأرض.  الأكسجين ضروري لتنفُّس الكائنات الحية، حيوانات ونباتات. وثاني أكسيد الكربون ضروري، إلى جانب ضوء الشمس، للنباتات الخضراء لإنتاج المادة العضوية التي هي ضرورية لجميع الكائنات الحية. ومن المعروف أنه كلما ابتعد الكائن الحي أو الإنسان عن سطح الأرض، كلما وجد صعوبةً في التنفس بسبب نُدرة الأكسجين، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى :"فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (الأنعام، 125).
في هذه الآية الكريمة، يُشير، سبحانه وتعالى إلى صعوبة التنفس حينما يتحدَّث عن ضيق الصدر وإلى ندرة الأكسجين حينما يقول "كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ". وضيق الصدر، في هذه الآية، مرتبط بندرة الأكسجين. لكن ندرةَ الأكسجين، كظاهرة علمية، ليست واردة حرفيا في هذه الآية ولا وجودَ لتفسيرها في نفس الآية. فأين هو الإعجاز العلمي؟ 
انطلاقا من هذه التَّوضيحات، يمكن الجزمُ بأن القرآن الكريم ليس كتابَ علوم بالمفهوم الدنيوي، كما يدَّعي بعض الناس وعلى رأسهم بعض فقهاء وعلماءُ الدين. فكلما دار الحديث عن ظاهرة من الظواهر العلمية، إلا وتسابق هؤلاء الناس والفقهاء والعلماء ليقولوا لنا : القرآن الكريم أو الدين الإسلامي سبق العلمَ الحديثَ، منذ 14 قرنا، من خلال الإشارة لهذه الظواهر العلمية، وبالتالي، يظنون أن القرآن الكريم هو مصدرٌ للإعجاز العلمي، كما سبق تفسيرُه في بداية هذه المقالة.
ألم يدرك هؤلاء العلماء والفقهاء أن هناك فرقا كبيرا بين "أشار"، من جهة، و"اكتشف" و"بحثَ" و"درس" و"حلَّلَ"... من جهة أخرى؟ ثم ألم يدرك هؤلاء العلماء والفقهاء أن الظواهر العلمية التي اكتشفها العلماء الحقيقيون، لا علاقةَ لها لا بالقرآن الكريم ولا بالدين الإسلامي. بل لها علاقة بالعقل البشري الذي اجتهد وبحث من أجل الوصول إليها. وأصحاب العقول البشرية، النيِّرة والمستنيرة، يمكن أن يكونوا متديِّنين كما يمكن أن يكونوا غير متديِّنين. وهذه بعض الدلائل التي تنفي أن القرآن الكريم فيه إعجاز علمي :
1.لو كان القرآن الكريم مصدرا للإعجاز العلمي، لاحتوى على إشاراتٍ لجميع الظواهر العلمية جملةً وتفصيلاً. وهذه الظواهر، كحقائق علمية، غير موجودة في القرآن الكريم. ما يوجد في هذا القرآن، هو، كما سبق الذكر،  إشاراتٌ لهذه الظواهر. وكثير من الظواهر العلمية التي توصَّل إليها العلم الحديث ليس لها إشارات في القرآن الكريم.
2.حينما خلق الله، سبحانه وتعالى، الإنسانَ العاقلَ، أمره أن يُعمِّرَ الأرض، علما أن اللهَ سخَّر له، من أجل تحقيق هذا  الإعمار،  كل ما في الأرض وما في السماء، مصداقا لقوله، عز وجل : "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً… (لقمان، 20). فبماذا سيُعمِّر الإنسانُ العاقل الأرضَ إن لم يكن بتشغيل عقله؟ ولو افترضنا أن القرآن الكريم يحتوي على جميع الظواهر العلمية وعلى تفسيراتها، فكم ستكون عدد سوره وآياته؟ وماذا سيبقى للعقل البشري أن يفعلَه لإعمار الأرض؟
3."وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً…". "وَأَسْبَغَ" تعني أعطى بكرمٍ كبيرٍ. "نِعَمَهُ"، أي عطاءاته. "ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً"، أي منها ما هو ظاهرٌ للعيان، يعني ملموس. ومنها ما هو خفي، أي غير ملموس يتطلَّب استعمالَ العقل، من خلال البحث والتَّنقيب للوصول إليه. وهذا هو ما يقوم به العلماء الحقيقيون لاكتشاف الظواهر العلمية أو تفسيرها. ولعل أعظمَ نِعمةٍ حباها اللهُ، سبحانه وتعالى، للإنسان، هي العقل. والعقل هو الذي، بفضلِ أبحاثه وتنقيباته، وصل إلى العديد من النِّعم، الظاهرة والباطنة. ثم أتظنون، يا علمائنا و يا فقهاءنا، أن العلماء الحقيقيين، للقيام بأبحاثهم وتنقيباتهم، انطلقوا وينطلقون من إشارات القرآن الكريم؟ لا أبدا! انطلقوا وينطلقون من ما يفرضه عليهم الواقع من مشكلات ومن تفاعلهم مع البيئة بجميع أبعادها الطبيعية، البشرية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، التنموية… علما أن كثيرا من هؤلاء العلماء الحقيقيين ملحِدون أو عِلمانيون أو لادينيون أو لاأدريون أو مؤمنون… فأين هو الإعجاز العلمي؟
4.إذا أراد شخصٌ ما أن يطَّلع بتفصيلٍ على ظاهرة من الظواهر العلمية التي اكتشفها العلمُ الحديث، إلى أين سيتجه؟ هل للقرآن الكريم الذي يعتبره علماء وفقهاء الدين مصدرا للإعجاز العلمي أم للموسوعات العلمية؟ الجواب عن هذا السؤال واضح وضوحَ الشمس. فأين هو الإعجاز العلمي؟
وقبل أن أختمَ هذه المقالة، أقول إن ما يدَّعيه علماء الدين وفقهاءُه من أن القرآن الكريم مصدر للإعجاز العلمي غير صحيح. الإعجاز العلمي الحقيقي هو ذلك الذي يحدث في المؤتمرات والمناظرات واللقاءات العلمية حيث تتجابه وتتواجه النظريات والأطروحات العلمية ولا يصمد  منها إلا تلك التي تتوافق مع المنطق ولا ينال من صحتها النقد العلمي. لو كانت هذه النظريات والأطروحات العلمية متضمَّنةً ومفسَّرة في القرآن الكريم، لقُلنا إن القرآن الكريم، فعلا، مصدر للإعجاز العلمي.
لكن، ما لم ينتبه إليه السواد الأعظم من فقهاءُ الدين وعلمائه هو أن كل اكتشاف علمي أو كل تفسير قديم أو جديد لظاهرة من الظواهر العلمية ليسا إلا محاولاتُ توضيحٍ للثوابت التي يُدير ويدبِّر بها الله، سبحانه وتعالى، الكونَ والأرضَ. وكما سبق الذكرُ أعلاه، هذه الثوابت مستقلة عن الزمان والمكان، وبالتالي، فهي مطلقة، أي لايعلم حقيقتها إلا خالقها. ولهذا، فالعلوم الدنيوية، مهما تطوَّرت ومهما قطعت أشواطا مهمة في الدقة والتَّدقيق، ستبقى دائما، محصورة في التفسير والتوضيح والتِّبيان والتَّحليل والإيضاح… إلى يوم يُبعَثُون، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…" (البقرة، 255).
صحيح أن القرآن الكريم فيه إعجاز ولكن من حيث آياته المُحكمة وبلاغته ودقة كلماته وعجز البشر عن الإتيان بمثله، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (الإسراء، 88). لكن، حسب رأيي الشخصي، ليس مصدرا للإعجاز العلمي.