أجرى الخبير في الاقتصاد الفلاحي والتنمية القروية، العربي الزكدوني، حوارا مطولا نشر ضمن قناة عبد المجيد الحريشي على " يوتيوب " سلط فيه الضوء على عدد من الإشكاليات التي يعاني منها القطاع الفلاحي بالمغرب والتي تحول دون تحقيق الأمن الغذائي وأبرزها إشكالية الإجهاد المائي منتقدا الاختيارات التي تمت خلال 15 سنة الأخيرة والتي تسببت في استنزاف الموارد المائية، وإهمال سلسلة الحبوب في السياسة الفلاحية، داعيا الى وقفة تأملية لتقييم حصيلة القطاع الفلاحي خلال 50 سنة والقطع مع الاختيارات السابقة في ضوء التغيرات المناخية والتوتر والتقلبات على الصعيد الدولي ، مؤكدا بأن كلفة مخطط " المغرب الأخضر " كانت جد باهظة على الموارد المائية .
في نظرك هل تسبب مخطط المغرب الأخضر في الإجهاد المائي؟ وهل نحن أمام سياسة فلاحية أم أمام حالة تخبط عشوائي؟
الأمر يتعلق بإشكالية الأمن الغذائي تحت ظروف خاصة منذ بضعة سنين، رغم كوننا كنا قد ناشدنا المسؤولين للنظر في الاختيارات التي اتخذت منذ سنين لتفادي ما وصلنا إليه اليوم من خصاص حاد في الماء الذي يعد هو المورد الأساسي لجميع الأنشطة البشرية وأيضا للحياة . أولا لفهم الوضع الحالي وكيف وصلنا إليه، فقبل الحديث عن الأمن الغذائي، لابد من الإشارة الى أن المغرب كان نموذجا فيما يتعلق ببناء التنمية في مرحلة معينة على أساس إعطاء الأولوية للقطاع الفلاحي بغية الوصول الى ما كان يسمى آنذاك بالاكتفاء الذاتي، بمعنى أننا ننتج حسب معطياتنا المناخية وحسب التربة والأراضي الصالحة للزراعة، ومن ما يتوفر من مراعي للإنتاج الحيواني حتى نصل الى الاكتفاء الذاتي. وفي إطار هذا البحث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي طورنا مجموعة من سلاسل الانتاج بما فيها سلاسل لم تكن متواجدة آنذاك في المغرب، لو أخذنا منتوجات النباتات السكرية على سبيل المثال من شمندر وقصب السكر.
الأمر يتعلق بإشكالية الأمن الغذائي تحت ظروف خاصة منذ بضعة سنين، رغم كوننا كنا قد ناشدنا المسؤولين للنظر في الاختيارات التي اتخذت منذ سنين لتفادي ما وصلنا إليه اليوم من خصاص حاد في الماء الذي يعد هو المورد الأساسي لجميع الأنشطة البشرية وأيضا للحياة . أولا لفهم الوضع الحالي وكيف وصلنا إليه، فقبل الحديث عن الأمن الغذائي، لابد من الإشارة الى أن المغرب كان نموذجا فيما يتعلق ببناء التنمية في مرحلة معينة على أساس إعطاء الأولوية للقطاع الفلاحي بغية الوصول الى ما كان يسمى آنذاك بالاكتفاء الذاتي، بمعنى أننا ننتج حسب معطياتنا المناخية وحسب التربة والأراضي الصالحة للزراعة، ومن ما يتوفر من مراعي للإنتاج الحيواني حتى نصل الى الاكتفاء الذاتي. وفي إطار هذا البحث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي طورنا مجموعة من سلاسل الانتاج بما فيها سلاسل لم تكن متواجدة آنذاك في المغرب، لو أخذنا منتوجات النباتات السكرية على سبيل المثال من شمندر وقصب السكر.
حيث أدخلنا إنتاج الشمندر في أوائل الستينيات من القرن الماضي، وكانت التجربة الأولى في سيدي سليمان بالغرب، وطورنا المساحات المزروعة من الشمندر وقصب السكر ولكننا لم نتوصل إلى تغطية جميع الحاجيات الاستهلاكية من السكر، حيث أن النسبة المئوية تتأرجح ما بين 40 الى 50 في المائة منذ سنين، رغم المجهودات التي بذلت فيما يتعلق بتوسيع المساحات الزراعية، أولا من خلال ما يسمى بالدوائر السقوية، ونفس الأمر بالنسبة للحبوب حيث لم نتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي. ويمكنني القول إننا فقدنا الاكتفاء الذاتي من الحبوب منذ الستينيات من القرن الماضي، وبالتالي لازلنا نعاني من خصاص يتراوح ما بين 50 الى 70 في المائة حسب السنوات. وكنا نعتقد الى حدود السنة الماضية أننا في مأمن فيما يتعلق بتغطية جميع حاجياتنا من اللحوم والحليب ومشتقاته إلا أنه تم اللجوء الى الاستيراد والذي شمل حتى أضاحي العيد من البرتغال واسبانيا ورومانيا، الى جانب إطلاق العنان منذ سنين لاستيراد العجول للذبح. أزمة الحليب الكل يعرفها، والإنتاج مهدد لعدة أسباب يمكن الرجوع إليها. وفيما يتعلق بالخضر والفواكه الأكثر استهلاكا فهي تغطي الحاجيات من الاستهلاك الوطني وإن كان هناك ضغط فيما يتعلق بالأثمان. بالطبع العديد من المسؤولين يرجعون الوضعية الحالية إلى التقلبات المناخية وإلى تعاقب سنوات الجفاف، وأعتقد أن إرجاع جميع الأمور الى السماء يعني أننا لا نتحمل أية مسؤولية في الوضعية الحالية، وهو أمر لا يمكن تقبله من الناحية المنطقية.. فعلا هناك تغيرات أو تقلبات مناخية وهناك تعاقب لسنوات الجفاف، وهناك نقص متزايد في التساقطات المطرية والثلوج والتي تزود الفرشاة المائية والسدود قبل أن توزع حسب الاستعمالات الفلاحية والصناعية، والسياحية والماء الصالح للشرب، ولكن هذا لا يعني أن المسؤولين ليست لهم مسؤولية في الوضعية الحالية. أخيرا تصفحت مجموعة من الدراسات والتقييمات بما فيها تقارير أنجزتها مؤسسات دستورية مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المندوبية السامية للتخطيط، المجلس الأعلى للحسابات، المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، مديرية الدراسات التابعة لوزارة المالية، التقرير الصادر عن خمسينية التنمية البشرية، تقرير النموذج التنموي الجديد، التقييمات الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية بما فيها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، المنظمة العالمية للأغذية والزراعة، الاتحاد الأوروبي، الصندوق الدولي للتنمية الفلاحية.. وأكثر من هذا وذاك الخطب الملكية سواء في عهد الملك الراحل الحسن الثاني أو منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش.. كل هذه المصادر تتضمن التقائية تنبني على رصد مجموعة من الإشكالات المطروحة منذ أكثر من نصف قرن والتي لاتزال لحدود اليوم تبارح مكانها، بينما الكل مجمع بما في ذلك أعلى سلطة في البلاد بكونها تشكل إكراهات قوية تحد من مردودية من القطاع الفلاحي وتحد من تأثير السياسات العمومية فيما يتعلق بتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وهناك من سموها الأسئلة العالقة للتنمية الفلاحية والقروية في المغرب. وهنا لابد من الإشارة الى تقييم هام قام به الطيب زعمون بطلب من الملك الراحل الحسن الثاني شارك فيه ثلة من القطاع الفلاحي آنذاك، حيث لازالت لحد الساعة الإكراهات التي طرحها آنذاك سيدة الموقف. وأعطيك مثال الماء وسأعود الى الخطاب الملكي بتاريخ 27 يونيو 2001 أي منذ 22 سنة، والذي وجه للمجلس الأعلى للماء والمناخ والذي دعا فيه الى تغيير طريقة تدبيرنا للماء والى إعادة النظر في الطلب بينما لازلنا لحد الآن نتخبط في العرض «بناء السدود، تحلية المياه، تصفية المياه العادمة وإعادة استعمالها». وقد كرر الملك منذ عام ونصف بمناسبة افتتاح البرلمان نفس الموضوع حين طرح موضوع الاستثمار والماء وضرورة إعادة النظر في السياسات القطاعية..
ولماذا لم يتم تنفيذ مضامين الخطاب الملكي لعام 2001 من طرف المسؤولين ؟
على ضوء معطى تقلص الموارد المائية، إعطيني مثال واحد لاستراتيجية أو سياسة كان معمولا بها تم إعادة النظر فيها، فهل بعد الخطاب الملكي تمت إعادة النظر في «الجيل الأخضر» الذي يشكل امتدادا لمخطط المغرب الأخضر..إنها أزمة كبيرة، والتي تجعلني شخصيا على قناعة بأن الحديث عن الجفاف غير مقنع، فمن الآن فصاعدا ينبغي للمغرب أن يطرح سياساته العمومية على ضوء معطى قار وهيكلي وهو نقص الماء. فالنقص المائي في المغرب أصبح معطى أساسيا وتابتا، وبالتالي جميع السياسات العمومية والتخطيطات والاستشرافات ينبغي أن تبنى على هذا الأساس. وهذا ليس معطى جديدا فقد أشار إليه الخبراء منذ 30 سنة، لقد أصبح مفروضا علينا جوهريا إعادة النظر ليس فقط في النموذج الفلاحي بل في النموذج التنموي للبلاد ككل.
على ضوء معطى تقلص الموارد المائية، إعطيني مثال واحد لاستراتيجية أو سياسة كان معمولا بها تم إعادة النظر فيها، فهل بعد الخطاب الملكي تمت إعادة النظر في «الجيل الأخضر» الذي يشكل امتدادا لمخطط المغرب الأخضر..إنها أزمة كبيرة، والتي تجعلني شخصيا على قناعة بأن الحديث عن الجفاف غير مقنع، فمن الآن فصاعدا ينبغي للمغرب أن يطرح سياساته العمومية على ضوء معطى قار وهيكلي وهو نقص الماء. فالنقص المائي في المغرب أصبح معطى أساسيا وتابتا، وبالتالي جميع السياسات العمومية والتخطيطات والاستشرافات ينبغي أن تبنى على هذا الأساس. وهذا ليس معطى جديدا فقد أشار إليه الخبراء منذ 30 سنة، لقد أصبح مفروضا علينا جوهريا إعادة النظر ليس فقط في النموذج الفلاحي بل في النموذج التنموي للبلاد ككل.
لنعد الى مخطط المغرب الأخضر، فلقد جاء في ظروف تميزت بغلاء المواد الأساسية الموجهة للاستهلاك البشري عام 2007، حيث ارتفعت الأسعار بشكل مهول على غرار ما يحدث اليوم أو أكثر، وكانت هناك أزمة عالمية بما في ذلك أزمة مالية عصفت بأبناك كبرى، وفي خضم ذلك طالبت التوجيهات الملكية ببلورة استراتيجية جديدة لإعطاء نفس جديد للقطاع الفلاحي. ونحن لا ننكر أن مخطط المغرب الأخضر تتميز ببعض الجوانب وأبرزها استمراريته لما يناهز 15 سنة، فالقليل من السياسات الفلاحية التي تميزت بالاستمرارية طوال هذه المدة باستثناء سياسة السدود التي بدأت في أواخر الستينيات ووضع لها المرحوم الحسن الثاني هدف سقي مليون هكتار، وقد حققنا هذا الهدف عام 2000، أي أنها استمرت لأزيد من 30 سنة ولازالت مستمرة نسبيا الى حدود اليوم.
أعتقد أن قطاعات التعليم والصحة والأمن الغذائي والأمن والعدل تتطلب وضع استراتيجيات على المدى الطويل، فلا يمكن قبول تغييرها كل سبعة أيام مع مجيء كل حكومة!، فهذه القطاعات تمنحنا إمكانية تسيير البلاد والتحكم في مصيرها على مدى طويل جدا، وهو ما يضمن استقرار البلاد وبالتالي ضمان الاستثمارات الداخلية والخارجية وتحقيق التنمية. اذا مخطط المغرب الأخضر حظي بمعطى الاستمرارية الى جانب معطى الاستثمار، حيث لم يسبق للقطاع الفلاحي أن حظي بميزانيات بهذا الحجم، وأعطيت له تسهيلات مكنت من تحريك التنظيمات المهنية رغم محدوديتها، الى جانب إطلاق عنان لاستغلال أراضي الدولة من طرف ما يسمون "المستثمرين" الوطنيين المغاربة والأجانب، وفعلا تضاعف الإنتاج الفلاحي وتضاعفت قيمة المنتوج، وارتفع نسبة مساهمة القطاع الفلاحي في الاقتصاد الوطني. لكن الأمر يفرض علينا إجراء تقييم للتمويلات التي منحت للتنظيمات المهنية أو البيمهنية، ومعرفة مدى تأثير السياسات العمومية على المواطن المغربي وعلى ظروف عيشه وعلى تعليمه وعلى دخل أبنائه، وإلا فإن السياسات العمومية لا معنى لها في غياب هذا التأثير . الكثيرون يقولون إن المغرب لم يشهد مثل هذا الجفاف الذي نعيشه منذ 30 سنة. وأنا أختلف مع هذا الطرح فهذا النقص المائي الذي نعاني منه لم نشهد له مثيل، فالجفاف الذي عاشه المغرب في الثمانينيات مختلف عن الجفاف الحالي، أولا لكون نسبة الساكنة كانت ضئيلة بينما حاليا نحن نقارب 40 مليون، اذا الطلب على الماء اليوم يختلف عن الأمس. ثانيا السدود لم تتراجع حقينتها في الثمانينيات كما حدث اليوم، والأخطر من ذلك أنه منذ الثمانينيات الى حدود اليوم استنزفنا الفرشاة المائية.
وما هي كلفة مخطط المغرب الأخضر؟
الكلفة كانت باهظة حيث تم استنزاف الفرشة المائية خلال 10 سنوات وترك الدمار. ولذلك لا أقبل الحديث عن الجفاف لماذا؟ لأن المساحة التي تم تجهيزها للسقي بالتنقيط من طرف صندوق التنمية الفلاحية ارتفعت بشكل كبير بما فيها الأراضي خارج الدوائر السقوية. هناك من يتحدث عن وجود مليون و700 ألف هكتار مجهزة للسقي. والجديد في هذا الموضوع أن ما يناهز 600 الى 700 ألف هكتار غير خاضعة لأي مراقبة وتتعلق بالسقي التابع للخواص والذي تطور بدعم من صندوق التنمية الفلاحية والذي يضخ مياه الفرشة المائية عبر حفر الآبار دون حسيب ولا رقيب. أنا لا أقول إن المسؤولين ساهموا في هذا الوضع عن قصد، لكن ما يؤاخذون عليهم هو كونهم لا ينصتون للتقييمات التي تجرى بهذا الخصوص، علما أن سياسة كيفما كانت جودتها اذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة على ضوء التتبع والتقييم المستمر، فإنها تؤدي الى رواسب سلبية. فلا يعقل دعم السقي بالتنقيط في مناطق لا تمتلك حتى مياه الشرب، وللأسف فقد انتهى مخطط المغرب الأخضر منهيا معه حتى الموارد المائية. ولذلك أؤكد أن الجفاف مجرد عامل الى جانب الاختيارات البشرية التي لديها أيضا نسبة من المسؤولية في ما وصلنا إليه اليوم ..
ماذا عن توسيع مساحات النخيل في الجنوب الشرقي؟
للأسف فتوسيع مساحات النخيل في الجنوب الشرقي يتم على حساب الأراضي الرعوية التابعة للجماعات السلالية عبر عقود كراء ذات المدى الطويل، ويستفيدون من دعم الدولة من أجل ضخ المياه من الفرشة المائية. وللأسف فضخ المياه يتم انطلاقا من مناطق عالية تعد مصدر المياه بالنسبة للواحات التقليدية وكل هذا يتم لصالح فئة معينة لما يسمونهم بـ «المستثمرين» على حساب أنظمة اجتماعية وبيئية وثقافية تشكل مكونا أساسيا ليس للفلاحة المغربية بل للهوية المغربية. فالمجتمعات الواحية تعد رافدا من روافد الهوية المغربية، قد يقال إنه سيتم رفع إنتاج التمور، لكن ماذا عن كلفة ذلك البيئية والاجتماعية والأمنية ؟ وللأسف فالقطاع الفلاحي يتم تدبيره من منطلق معيار مالي.. منذ 2007 دخلنا في منهجية جديدة تم بموجبها إقصاء الخبراء والباحثين من المشاركة في إعداد المخططات والبرامج الفلاحية وتم تعويضهم بمكاتب الدراسات الأجنبية، والأمر يعود الى وجود تيار جارف لا يقتصر وجوده على المغرب، علما أن مكاتب الدراسات هي بمثابة شركات هدفها الربح، فهي تقوم بإعداد المخططات والدراسات والاستراتيجيات وتتقاضى أجورها ثم تغادر، ولا يمكن بعدها محاسبتها، بينما تشغيل الباحثين المغاربة يمكن من تملك الاستراتيجيات كما أن هؤلاء سيكونون مسؤولون أمام الشعب في حالة الفشل. لب القطاع الفلاحي هي الفلاحة الأسرية، فمنذ الأربعينيات ونحن نتحدث عن ضرورة بلورة سياسة فلاحية موجهة للفلاحة الأسرية ولحد الآن ليست لدينا سياسة فلاحية موجهة لهذه الفئات الواسعة من القطاع الفلاحي بالمغرب. ينبغي تنويع الأنشطة الاقتصادية في العالم القروي. لحدود الساعة لازال الاقتصاد القروي مرتبط ارتباطا شديدا بالإنتاج الفلاحي، ونحن نتساءل عن غياب سلسلة الحبوب من السياسة الفلاحية سواء في مخطط المغرب الأخضر أو مخطط الجيل الأخضر.. للأسف وكما قال الجنرال ليوطي فالفلاحة المغربية لازالت مرتبطة بما تجود به السماء، رغم سياسة السدود التي دشناها منذ الستينيات، ورغم دعم السقي بالتنقيط في إطار مخطط المغرب الأخضر ورغم توسيع الأراضي المغروسة.. وها قد عدنا اليوم الى تابت من الثوابت في الفلاحة المغربية، إذن الأمر يتعلق بمعطى هيكي، فهل تعاملنا معه كمعطى هيكلي؟ للأسف فالاقتصاد القروي مرتبط أشد الارتباط بالإنتاج الفلاحي، علما أنه منذ 60 سنة ونحن نردد بأن الفلاحة المغربية ونظرا لقلة الموارد وضعفها، لا يمكنها تحمل العبء الديمغرافي للعالم القروي. لابد من تثمين المنتوجات الفلاحية عبر التصنيع على غرار ما قمنا به بالنسبة للنباتات السكرية، حيث أقيمت مصانع لإنتاج السكر والتي مكنت من تشغيل ساكنة العالم القروي.
الكلفة كانت باهظة حيث تم استنزاف الفرشة المائية خلال 10 سنوات وترك الدمار. ولذلك لا أقبل الحديث عن الجفاف لماذا؟ لأن المساحة التي تم تجهيزها للسقي بالتنقيط من طرف صندوق التنمية الفلاحية ارتفعت بشكل كبير بما فيها الأراضي خارج الدوائر السقوية. هناك من يتحدث عن وجود مليون و700 ألف هكتار مجهزة للسقي. والجديد في هذا الموضوع أن ما يناهز 600 الى 700 ألف هكتار غير خاضعة لأي مراقبة وتتعلق بالسقي التابع للخواص والذي تطور بدعم من صندوق التنمية الفلاحية والذي يضخ مياه الفرشة المائية عبر حفر الآبار دون حسيب ولا رقيب. أنا لا أقول إن المسؤولين ساهموا في هذا الوضع عن قصد، لكن ما يؤاخذون عليهم هو كونهم لا ينصتون للتقييمات التي تجرى بهذا الخصوص، علما أن سياسة كيفما كانت جودتها اذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة على ضوء التتبع والتقييم المستمر، فإنها تؤدي الى رواسب سلبية. فلا يعقل دعم السقي بالتنقيط في مناطق لا تمتلك حتى مياه الشرب، وللأسف فقد انتهى مخطط المغرب الأخضر منهيا معه حتى الموارد المائية. ولذلك أؤكد أن الجفاف مجرد عامل الى جانب الاختيارات البشرية التي لديها أيضا نسبة من المسؤولية في ما وصلنا إليه اليوم ..
ماذا عن توسيع مساحات النخيل في الجنوب الشرقي؟
للأسف فتوسيع مساحات النخيل في الجنوب الشرقي يتم على حساب الأراضي الرعوية التابعة للجماعات السلالية عبر عقود كراء ذات المدى الطويل، ويستفيدون من دعم الدولة من أجل ضخ المياه من الفرشة المائية. وللأسف فضخ المياه يتم انطلاقا من مناطق عالية تعد مصدر المياه بالنسبة للواحات التقليدية وكل هذا يتم لصالح فئة معينة لما يسمونهم بـ «المستثمرين» على حساب أنظمة اجتماعية وبيئية وثقافية تشكل مكونا أساسيا ليس للفلاحة المغربية بل للهوية المغربية. فالمجتمعات الواحية تعد رافدا من روافد الهوية المغربية، قد يقال إنه سيتم رفع إنتاج التمور، لكن ماذا عن كلفة ذلك البيئية والاجتماعية والأمنية ؟ وللأسف فالقطاع الفلاحي يتم تدبيره من منطلق معيار مالي.. منذ 2007 دخلنا في منهجية جديدة تم بموجبها إقصاء الخبراء والباحثين من المشاركة في إعداد المخططات والبرامج الفلاحية وتم تعويضهم بمكاتب الدراسات الأجنبية، والأمر يعود الى وجود تيار جارف لا يقتصر وجوده على المغرب، علما أن مكاتب الدراسات هي بمثابة شركات هدفها الربح، فهي تقوم بإعداد المخططات والدراسات والاستراتيجيات وتتقاضى أجورها ثم تغادر، ولا يمكن بعدها محاسبتها، بينما تشغيل الباحثين المغاربة يمكن من تملك الاستراتيجيات كما أن هؤلاء سيكونون مسؤولون أمام الشعب في حالة الفشل. لب القطاع الفلاحي هي الفلاحة الأسرية، فمنذ الأربعينيات ونحن نتحدث عن ضرورة بلورة سياسة فلاحية موجهة للفلاحة الأسرية ولحد الآن ليست لدينا سياسة فلاحية موجهة لهذه الفئات الواسعة من القطاع الفلاحي بالمغرب. ينبغي تنويع الأنشطة الاقتصادية في العالم القروي. لحدود الساعة لازال الاقتصاد القروي مرتبط ارتباطا شديدا بالإنتاج الفلاحي، ونحن نتساءل عن غياب سلسلة الحبوب من السياسة الفلاحية سواء في مخطط المغرب الأخضر أو مخطط الجيل الأخضر.. للأسف وكما قال الجنرال ليوطي فالفلاحة المغربية لازالت مرتبطة بما تجود به السماء، رغم سياسة السدود التي دشناها منذ الستينيات، ورغم دعم السقي بالتنقيط في إطار مخطط المغرب الأخضر ورغم توسيع الأراضي المغروسة.. وها قد عدنا اليوم الى تابت من الثوابت في الفلاحة المغربية، إذن الأمر يتعلق بمعطى هيكي، فهل تعاملنا معه كمعطى هيكلي؟ للأسف فالاقتصاد القروي مرتبط أشد الارتباط بالإنتاج الفلاحي، علما أنه منذ 60 سنة ونحن نردد بأن الفلاحة المغربية ونظرا لقلة الموارد وضعفها، لا يمكنها تحمل العبء الديمغرافي للعالم القروي. لابد من تثمين المنتوجات الفلاحية عبر التصنيع على غرار ما قمنا به بالنسبة للنباتات السكرية، حيث أقيمت مصانع لإنتاج السكر والتي مكنت من تشغيل ساكنة العالم القروي.
وهل هناك نماذج أخرى في هذا الإطار؟
تجربة "كوباك" على سبيل المثال بالنسبة لإنتاج الحليب ومشتقاته تعد تجربة رائدة رغم كونها تمر من فترة صعبة حاليا، وبالتالي هل بلورنا صناعات صغيرة ومتوسطة في العالم القروي؟ من أجل خلق أنشطة قروية موازية ومكملة للقطاع الفلاحي، علما أنه تمنحنا إمكانيات تشغيل جديدة لفائدة ساكنة البوادي، الى جانب تقليص الضغط على الموارد الطبيعية (الغابات، المياه، المراعي) كما ستمكن من الحد من الهجرة القروية، وهو ما يعني خلق توازنات بين المناطق. وما نقوله ليس جديدا فمنذ ستين سنة ونحن نردده، دون أن يتم تنفيذه، واذا كانت الهياكل العقارية تعيق تطوير الإنتاج الفلاحي لماذا لم يتم إصلاحها منذ ستين سنة ؟
تجربة "كوباك" على سبيل المثال بالنسبة لإنتاج الحليب ومشتقاته تعد تجربة رائدة رغم كونها تمر من فترة صعبة حاليا، وبالتالي هل بلورنا صناعات صغيرة ومتوسطة في العالم القروي؟ من أجل خلق أنشطة قروية موازية ومكملة للقطاع الفلاحي، علما أنه تمنحنا إمكانيات تشغيل جديدة لفائدة ساكنة البوادي، الى جانب تقليص الضغط على الموارد الطبيعية (الغابات، المياه، المراعي) كما ستمكن من الحد من الهجرة القروية، وهو ما يعني خلق توازنات بين المناطق. وما نقوله ليس جديدا فمنذ ستين سنة ونحن نردده، دون أن يتم تنفيذه، واذا كانت الهياكل العقارية تعيق تطوير الإنتاج الفلاحي لماذا لم يتم إصلاحها منذ ستين سنة ؟
مؤخرا تم الاهتداء الى تمليك الأراضي السلالية لذوي الحقوق مع تخصيص مليون هكتار للاستثمار الفلاحي، لكن هذا جاء متأخرا فلقد طرحه الطيب زعمون منذ عام 1974 لما كان كاتبا عاما لوزارة الفلاحة، أنا لا أفهم لحد الآن هذه الازدواجية بين الخطاب والدراسات وحتى الاستراتيجيات المسطرة وواقع القطاع الفلاحي..
وهناك أيضا تقارير اللجان الموضوعاتية للبرلمان بشأن القطاع الفلاحي، فلماذا لم يتم إخراج توصياتها لحيز الوجود؟
صحيح.. نحن بحاجة ماسة الى التفعيل، فالمجلس الأعلى للحسابات مثلا طرح مشكل الماء وطرح مشكل التسويق. كما طرح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عددا من التقارير حول التنمية القروية، وحول التسويق وحول أسواق الجملة.. هناك الآلاف من التقارير والدراسات والمراجع التي لم تجد طريقها الى التفعيل..
صحيح.. نحن بحاجة ماسة الى التفعيل، فالمجلس الأعلى للحسابات مثلا طرح مشكل الماء وطرح مشكل التسويق. كما طرح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عددا من التقارير حول التنمية القروية، وحول التسويق وحول أسواق الجملة.. هناك الآلاف من التقارير والدراسات والمراجع التي لم تجد طريقها الى التفعيل..
وهل المغرب بلد قروي أم بلد فلاحي؟
المغرب بلد قروي قبل أن يكون فلاحيا، والمغرب قروي قبل أن يكون حضريا، كما أن الثقافة القروية لازالت هي السائدة حتى في عمق المدن المغربية، رغم كون الساكنة القروية هي في تقلص، إذ لا تشكل سوى 40 في المائة حاليا..
ماهي أبرز الأفكار الاستشرافية لتحقيق الأمن الغذائي في المغرب؟
هناك من يقول بأن الأمن الغذائي لا يعني بالضرورة إنتاج كل ما تحتاجه في بلدك، لأنه من الممكن اللجوء الى الأسواق الأجنبية لتعويض النقص الحاصل في مواد معينة، ولكن لابد من تعزيز القدرة الشرائية..حاليا نعاني من النقص في المياه، فأين هو الأمن الغذائي في ظل هذه الظروف، وبالتالي فإن العملة الصعبة معرضة للتقلص بشكل كبير، مما يعني العجز على جلب المنتوجات الفلاحية من الخارج..ماهو المطلوب اليوم ؟ في نظري وكما قلت ذلك في منتدى دولي نظمه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئية بشراكة مع مجلس المستشارين، بعد الخطاب الملكي حول تنمية الطبقة المتوسطة، فإن سياسة السدود وتجهيز الأحواض الهيدروفلاحية كانت لها نجاعتها ومنطقها وقد حققت أهدافها إجمالا، وهي في نظري انتهت. وحاليا في ظل الظروف التي فرضت علينا نتيجة التغيرات المناخية ونتيجة الاختيارات التي اتخذت خلال 15 سنة الأخيرة فيما يخص القطاع الفلاحي وحسب ما نستشرفه من التقلبات والتوترات الدولية في نظري المتواضع تفرض على بلادنا وقفة تأملية مسؤولة لتقييم ما قمنا به خلال 50 سنة فيما يخص التنمية الفلاحية والقروية. وأعتقد في ضوء الاختيارات والتوجهات التي تظهر على مستوى أعلى سلطة سواء فيما يخص تطوير منتوج الطاقات المتجددة والاستثمار فيها، وكذا الرقمنة والتغطية الصحية والخطابات الملكية المتعددة حول إشكالية الماء، وتطوير الصناعات في إطار الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد المغربي، تحلية مياه البحر، وما نقوم به من استثمارات استراتيجية في الأقاليم الجنوبية، والانفتاح على المحيط الأطلسي وعلى إفريقيا..كل هذا من وجهة نظري يعطينا اللمسات الأولى لمجموعة من الترتيبات تتعلق بإنجاز نموذج اقتصادي مغاير، والتي تبقى في إطار التساؤلات مطروحة حول مصير القطاع الفلاحي والعالم القروي..
المغرب بلد قروي قبل أن يكون فلاحيا، والمغرب قروي قبل أن يكون حضريا، كما أن الثقافة القروية لازالت هي السائدة حتى في عمق المدن المغربية، رغم كون الساكنة القروية هي في تقلص، إذ لا تشكل سوى 40 في المائة حاليا..
ماهي أبرز الأفكار الاستشرافية لتحقيق الأمن الغذائي في المغرب؟
هناك من يقول بأن الأمن الغذائي لا يعني بالضرورة إنتاج كل ما تحتاجه في بلدك، لأنه من الممكن اللجوء الى الأسواق الأجنبية لتعويض النقص الحاصل في مواد معينة، ولكن لابد من تعزيز القدرة الشرائية..حاليا نعاني من النقص في المياه، فأين هو الأمن الغذائي في ظل هذه الظروف، وبالتالي فإن العملة الصعبة معرضة للتقلص بشكل كبير، مما يعني العجز على جلب المنتوجات الفلاحية من الخارج..ماهو المطلوب اليوم ؟ في نظري وكما قلت ذلك في منتدى دولي نظمه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئية بشراكة مع مجلس المستشارين، بعد الخطاب الملكي حول تنمية الطبقة المتوسطة، فإن سياسة السدود وتجهيز الأحواض الهيدروفلاحية كانت لها نجاعتها ومنطقها وقد حققت أهدافها إجمالا، وهي في نظري انتهت. وحاليا في ظل الظروف التي فرضت علينا نتيجة التغيرات المناخية ونتيجة الاختيارات التي اتخذت خلال 15 سنة الأخيرة فيما يخص القطاع الفلاحي وحسب ما نستشرفه من التقلبات والتوترات الدولية في نظري المتواضع تفرض على بلادنا وقفة تأملية مسؤولة لتقييم ما قمنا به خلال 50 سنة فيما يخص التنمية الفلاحية والقروية. وأعتقد في ضوء الاختيارات والتوجهات التي تظهر على مستوى أعلى سلطة سواء فيما يخص تطوير منتوج الطاقات المتجددة والاستثمار فيها، وكذا الرقمنة والتغطية الصحية والخطابات الملكية المتعددة حول إشكالية الماء، وتطوير الصناعات في إطار الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد المغربي، تحلية مياه البحر، وما نقوم به من استثمارات استراتيجية في الأقاليم الجنوبية، والانفتاح على المحيط الأطلسي وعلى إفريقيا..كل هذا من وجهة نظري يعطينا اللمسات الأولى لمجموعة من الترتيبات تتعلق بإنجاز نموذج اقتصادي مغاير، والتي تبقى في إطار التساؤلات مطروحة حول مصير القطاع الفلاحي والعالم القروي..